«الإيجاز والانتصاف»: «الرَّحمن» أبلغ؛ لأنَّه كالعَلَم إذ كان لا يوصَف به غير الله تعالى، فكأنَّه الموصوف، وهو أقدم إذ الأصل في نِعَم الله أن تكون عظيمةً، فالبداءة بما يدلُّ على عظمها أَولى. هذا أحسن الأقوال، يعني: أنَّ هذا الأسلوب ليس من باب التَّرقِّي، بل هو من باب التَّتميم، وهو تقييدُ الكلام بتابعٍ يفيد مبالغةً، وذلك أنَّه تعالى لمَّا ذكر ما دلَّ على جلائل النِّعم وعظائمها أراد المبالغة والاستيعاب، فتمَّم بما دلَّ على دقائقها وروادفها؛ ليدلَّ به على أنَّه مولى النِّعم كلِّها، ظواهرها وبواطنها، جلائلها ودقائقها، فلو قصد التَّرقِّي لفاتت المبالغة المذكورة، ومن شرط التَّتميم الأخذ بما هو أعلى في الشَّيء، ثمَّ بما هو أحطُّ (١) منه؛ ليستوعب جميع ما يدخل تحت ذلك الشَّيء؛ لأنَّهم لا يعدلون عن الأصل والقياس إلَّا لتوخِّي نُكْتةٍ، وقيل: إنَّه من باب التَّكميل، وهو أن يؤتى بكلامٍ في فنٍّ، فيُرَى أنَّه ناقصٌ فيه، فيكمَّل بآخر، فإنَّه تعالى لمَّا قال:«الرَّحمن» تُوُهِّم أنَّ جلائل النِّعم منه، وأنَّ الدقائق لا يجوز أن تنسب إليه لحقارتها، فكمَّل بـ «الرَّحيم» ويؤيِّده ما في حديث التِّرمذيِّ عن أنسٍ مرفوعًا: «لِيَسأل أحدكم ربَّه حاجته كلَّها حتَّى يسأل شسع نعله إذا انقطع» وزاد: «حتَّى يسأل الملح».
وحديث الباب سبق في «الجنائز»[خ¦١٢٨٤].
(٣)(بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: أَنَا الرَّزَّاقُ) ولأبوي الوقت وذرٍّ والأَصيليِّ: «﴿إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾» أي: الذي يرزق كلَّ ما يفتقر إلى الرِّزق، وفيه إيماءٌ باستغنائه عنه، وقُرِئ:(إنِّي أنا الرَّزَّاق) وهو موافقٌ للرِّواية الأُولى (﴿ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٨]) الشَّديد القوَّة، و ﴿الْمَتِينُ﴾ بالرفع: صفة لـ ﴿ذُو﴾ وقرأ الأعمش بالجرِّ صفةً لـ ﴿الْقُوَّةِ﴾ على تأويل الاقتدار.