وأفصحَ وأبينَ كلامًا، وأقدرَ على الحجَّة (مِنْ بَعْضٍ) وهو كاذبٌ (وَأَقْضِيَ) عطف على المنصوب السَّابق بالواو، ولأبي ذرٍّ:«فأقضِي»(لَهُ) بسبب بلاغتهِ (عَلَى نَحْوِ مَا) أي: الَّذي (أَسْمَعُ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: «ممَّا أسمعُ»(فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ) وفي رواية: «بحقِّ أخيه المسلم» ولا مفهوم له؛ لأنَّه خرجَ مخرج الغالبِ، وإلَّا فالذِّمِّيُّ والمعاهد كذلك، وسقطَ لفظ «حقّ» لأبي ذرٍّ، فيصيرُ:«فمَن قضيْتُ له مِن أخيهِ»(شَيْئًا) بظاهرٍ يُخالف الباطنَ فهو حرامٌ (فَلَا يَأْخُذْ) بإسقاطِ الضَّمير المنصوب، أي: فلا يأخذْ ما قضيتُ له. ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ:«فلا يأخذه»(فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً) بكسر القاف، طائفة (مِنَ النَّارِ) إن أخذَها مع علمه بأنَّها حرامٌ عليه، وهذا من المبالغةِ في التَّشبيه جعل ما يتناوله المحكوم له بحكمهِ ﷺ، وهو في الباطنِ باطلٌ قطعة من النَّار. وقال في «العدَّة»: أطلقَ عليه ذلك؛ لأنَّه سببٌ في حصول النَّار له، فهو من مجاز التَّشبيه كقولهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: ١٠] وحاصله: أنَّه أخذ ما يؤولُ به إلى قطعةٍ من النَّار، فوضع المسبَّب وهو قطعةٌ من النَّار موضعَ السَّبَب وهو ما حكمَ له به.
وفي الحديث: أنَّ حكمَ الحاكمِ لا يُحلُّ ما حرَّم الله ورسوله ولا يحرِّمه، فلو شهدَ شاهدا زورٍ لإنسان بمالٍ فحكمَ به لم يحلَّ للمحكومِ له ذلك المال، ولو شهدا عليه بقتلٍ لم يحلَّ للوليِّ قتله مع علمه بكذبهِمَا، وإنْ شهدا على أنَّه طلَّق امرأتَه لم يحلَّ لمن علم كذبهما أنْ يتزوَّجها، فإن قيل: هذا الحديثُ ظاهره: أنَّه يقع منه ﷺ حكم في الظَّاهر يخالفُ الباطن، وقد اتَّفق الأصوليُّون على أنَّه ﷺ لا يقرُّ على الخطأ في الأحكامِ. فالجوابُ: أنَّه لا تعارض بين الحديثِ وقاعدةِ الأصول؛ لأنَّ مرادَ الأصوليِّين ما حكم فيه باجتهادِهِ (١) هل يجوزُ أن يقعَ فيه خطأ؟ فيه خلاف والأكثرون على أنَّه لا يخطئُ في اجتهاده بخلاف غيره، وأمَّا الَّذي في الحديث فليس من الاجتهادِ في شيءٍ؛ لأنَّه حكم بالبيِّنة ونحوها، فلو وقعَ منه ما يخالفُ الباطن لا يسمَّى الحكم خطأ، بل الحكم صحيحٌ على ما استقرَّ به التَّكليف، وهو وجوبُ العمل بشاهدين مثلًا، فإن كانا شاهدَي زورٍ أو نحو ذلك فالتَّقصير منهما، وأمَّا الحكم فلا حيلةَ له فيه، ولا عيبَ عليه بسببهِ بخلاف ما إذا أخطأَ في الاجتهادِ.