للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقوله: «والاستواء غير مجهولٍ» أي: أنَّه معلوم المعنى عند أهل اللُّغة، و «الإيمان به على الوجه اللَّائق به تعالى واجبٌ»؛ لأنَّه من الإيمان بالله تعالى وكتبه (١)، و «السُّؤال عنه بدعةٌ» أي: حادثٌ؛ لأنَّ الصَّحابة كانوا عالمين بمعناه اللَّائق بحسب اللُّغة، فلم يحتاجوا للسُّؤال عنه، فلمَّا جاء من لم يُحَط بأوضاع لغتهم ولا له نورٌ كنورهم يهديه لنور صفات البارئ تعالى؛ شرع يسأل عن ذلك، فكان سؤاله سببًا لاشتباهه على النَّاس وزيغهم (٢)، وتعيَّن على العلماء حينئذٍ أن يهملوا البيان، وقد مرَّ أنَّ «استوى» «افتعل» وأصله: العدل، وحقيقة الاستواء المنسوب إلى الله (٣) تعالى في كتابه بمعنى: اعتدل، أي: قام بالعدل، وأصله من قوله: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ إلى قوله: ﴿قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه إلى أنَّه أعطى بعزَّته كلَّ شيءٍ خلقه موزونًا بحكمته البالغة في التَّعريف لخلقه بوحدانيَّته، ولذلك قرنه بقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ والاستواء المذكور في القرآن استواءان: سماويٌّ وعرشيٌّ، فالأوَّل: مُعدًّى بـ «إلى» قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء﴾ [البقرة: ٢٩] والثَّاني: بـ «على» لأنَّه تعالى قام بالقسط متعرِّفًا بوحدانيَّته في عالمَين -عالم الخلق، وعالم الأمر- وهو عالم التَّدبير (٤)، فكان استواؤه على العرش للتَّدبير بعد انتهاء عالم الخلق، وبهذا يُفهَم سرُّ تعدية الاستواء العرشيِّ بـ «على» لأنَّ التَّدبير للأمر لا بدَّ فيه من استعلاءٍ واستيلاءٍ، والعرش جسمٌ كسائر الأجسام، سُمِّي به لارتفاعه، أو للتَّشبيه بسرير الملِك، فإنَّ الأمور والتَّدابير تنزل منه (﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾) يغطِّيه (٥)، ولم يذكر عكسه للعلم به (﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾) يعقبه سريعًا كالطَّالب له، لا يفصل بينهما شيءٌ، والحثيث «فعيلٌ» من الحثِّ، وهو صفة مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من الفاعل بمعنى: حاثًّا، أو المفعول بمعنى: محثوثًا (﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾) بقضائه وتصريفه، ونصبها بالعطف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ونصب ﴿مُسَخَّرَاتٍ﴾ على الحال (﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ت﴾) فإنَّه الموجد والمتصرِّف (﴿تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤]) تعالى بالوحدانيَّة في الألوهيَّة، وتعظَّم بالتفرُّد في الرُّبوبيَّة، وسقط لأبي


(١) في (د): «وبكتبه».
(٢) في (د): «زيفهم».
(٣) في (د): «لله».
(٤) في (د): «التقدير».
(٥) في (د): «يطلبه».

<<  <  ج: ص:  >  >>