للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وجاوزتْ بنو إسرائيل البحر، فلمَّا خرج آخرهم منه؛ انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من النَّاحية الأخرى، فلمَّا رأى ذلك هاله وأحجم، وهاب وهمَّ بالرُّجوع، وهيهاتَ ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ [ص: ٣] نَفَذَ القدر، واستُجِيبَت الدَّعوة، وجاء جبريل على فرسٍ أنثى وخاض البحر، فلمَّا شمَّ أدهم فرعون ريح فرس جبريل اقتحمَ وراءه، ولم يملك فرعون من أمره شيئًا، واقتحمت الخيول خلفه في البحر، وميكائيل في ساقتهم يسوقُهم، ولا يترك أحدًا منهم إلَّا ألحقه بهم، فلمَّا تكاملوا وهمَّ أوَّلهم بالخروج منه؛ أمر الله القادر القاهر البحرَ فانطبق عليهم، فلم ينجُ منهم أحدٌ، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت (١) الأمواج فوق فرعون (﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾) وغشيته سكرات الموت (﴿قَالَ﴾) وهو كذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها: (﴿آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠]) وما علم اللَّعين أنَّ التَّوبة عند المعاينة غير نافعةٍ ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥] ولذا قال الله تعالى في جواب فرعون: ﴿آلآنَ﴾ أي: أتؤمن وقت الاضطرار ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾؟ [يونس: ٩١] وفي حديث ابن عبَّاسٍ عند أحمد وغيره مرفوعًا: «لمَّا قال فرعون: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فَدَسستُهُ (٢) في فِيْهِ مخافةَ أن تناله الرَّحمة» ورواه التِّرمذيُّ وقال: حسنٌ، و «حال البحر»: هو طينه الأسود، والمعنى: لو رأيتني لرأيتَ أمرًا عجيبًا، يبهَُتُ الواصف عن كُنْهِه، فإنِّي لمَّا شاهدت تلك الحالة بُهِتُّ غضبًا على عدوِّ الله لادِّعائه تلك العظمة، فعمدت (٣) إلى حال البحر فأدسُّه في فِيْهِ مخافةَ أن تدركه الرَّحمة لسعتها.

والحاصل: أنَّه إنَّما فعل ذلك غضبًا لله، وعلمًا منه أنَّه لا ينفعه الإيمان لا أَنَّه (٤) كره إيمانه، لأنَّ كراهة الإيمان من الكافر كفرٌ، لكن قال أبو منصورٍ الماتريديُّ في «التَّأويلات»: الرِّضا بالكفر ليس بكفرٍ مطلقًا (٥)، إنَّما يكون كذلك إذا رضي بكفر نفسه لا بكفر غيره، ويؤيِّده قصَّةُ ابن أبي


(١) في (د): «وتتراكم».
(٢) في غير (د) و (ل): «فدسته».
(٣) في (م): «فعهدت».
(٤) في (ص): «لأنه» وهو غير صحيحٍ.
(٥) «مطلقًا»: ليس في (د) و (م).

<<  <  ج: ص:  >  >>