بجمال أنسه، فهو روض تقبل الأرض فيه ثغور الزهور، وتطرز برود آدابه مع كونها تنسب لنفسها القصور. فحق لنا أن ننعته بأنه إنسان عين الزمان، بل عين إنسان نوع الإنسان، وسل الليالي المضمر في خاطر الدهر، بل بدرها الذي طلع في أفق هذا العصر. كشاف رموز الحقائق عن كنوز معاني الكشاف، وصاف شمائل ذوي الرقائق بما اشتمل عليه من بديع الأوصاف، كعبة طواف علماء القطر بل الأقطار فلذلك انتسب الإفتاء إليه، ومحراب اعتكاف ذوي القدر والاعتبار فمحور قطبهم دائر عليه. فلا غرو أنه وجيد الآفاق بالاتفاق، وفريد أولي الأخلاق بالاطلاق، وقد بوأه الله في الحديث تكرمة رفيعة الرواية والسند، وبرأه الله من نسبة الكلالة حيث ورث المجد عن أكرم أب وجد:
يا سائلي عنه لما ظلت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار
لو زرته لرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
ولد حفظه الله في دمشق الشام في رمضان، من سنة ألف ومائتين وإحدى وخمسين من هجرة سيد الأنام. وبعد أن أتم قراءة القرآن بالإتقان، أقبل على العلم بهمة ذات قدر وشان. ولازم دروس الأفاضل، إلى أن تحلى بالفضائل والفواضل، ورقى معارج السيادة ولاحظته عيون السعادة، وخطبته المناصب ليكون لها سيداً ولتكون له مولى، ورفعته المراتب على كاهلها حيث وجدته لها أهلاً.
ولم يزل يصعد سلم الكمال، إلى أن استوى على عرش الرفعة والإجلال، فقيل لمنصب الإفتاء ائته طوعاً أو كرهاً فأتاه طوعاً من غير مهلة وقال إني أقسم بمن قسم له بي ما أعطيتم الشيء إلا أهله، ولقد رجع الأسد إلى غابه، وجلس الإمام في محرابه، وقال لسان الحال هذه بضاعتنا ردت إلينا، فلا عتب لنا ولا ملام علينا.