ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فكان يكلم كل إنسان، بما كلمه به بأفصح بيان، فكل من ذاكره بفن من الفنون، يظن أنه فرد ذلك الفن المصون، وكان يحفظ من القصص والحديث، ما يوهم أنه لم يترك شيئاً من قديم وحديث، وكان كثيراً ما يتكلم بلسان العرفان، ويتمايل عند كلامه تمايل النشوان، ويذكر بديع عباراتهم، ورفيع إشاراتهم، فيخاله من له بهذا الفن بعض إلمام، أنه الشيخ الأكبر أو شيخ بسطام، وكنت أنا وبعض أحباب لي من الأدباء نجتمع به في غالب الأيام، ولم نقصده مرة إلا وقيل لنا ادخلوا بسلام، فيحدثنا ببديع الغرائب، وأعجب العجائب، وبما اتفق له في رحلته، من حين خروجه من بلدته، مما يدهش العقول، ولم يوقف له على تأييد منقول، فيقول بأنه رحل إلى الهند والصين، وبلاد الترك والعجم والممالك الأوربية، ومكث مدة سنين حتى تعلم ألسنة الجميع، ونظم في كل لسان ونثر من كل بديع، وكان يسرد لنا من قصائده بكل لسان لا نفهمه، ولا ندريه ولا نعلمه، ويحكي لنا ما اتفق له في هذه الممالك من غريب الخبر، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. غير أن لوائح المين عليه لائحة، ونوافح الوضع عليه نافحة، ثم إنه من أعجب العجاب، أنه له قوة وفصاحة تدعو السامع إلى الإصغاء له كالإصغاء إلى الصواب، وكلنا يقول عند الخروج أنه ليس له عن الباطل خروج.
لي حيلة فيمن ينم ... م وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
لكنه بين العموم مستور، وحقيق أمره عند غيرنا ليس بمشهور، وكان يصرف من المال صرف الأعيان، وكل منا في معرفة ذلك مدهوش