وكان دائماً نظره إلى الأرض مطرقاً برأسه يدور في محله ويتردد، كأنه محتار مدهوش واقع في مهم عظيم. وفي سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، حينما طلب السلطان عبد المجيد والدي ودعاه إلى ختان أولاده، فكانت المكاتيب من والدي إلينا متواصلة، إلى أن انقطعت عنا المكاتيب مدة طويلة، فصعب علينا الأمر، وانشغلت أفكارنا وكثرت التأويلات في هذا الأمر من الناس، فحصل عندنا جزع عظيم، فخرجت من دارنا إلى الجامع المعروف بجامع الدقاق في الميدان الذي هو في محل إقامتنا وصلاتنا وقراءتنا، وكان اليوم يوم خميس ونحن في غاية الضيق، فوجدت المترجم يتردد أمام حجرة والدي، ولم يكن له عادة في الانتقال من الساحة المتقدمة، فاستغربت الأمر كثيراً، وعرفت أنه ما كان ذلك إلا لحكمة، فتقدمت إليه وسألته، فقال بلسان فصيح يأتي الشيخ يوم الأحد، فقلت له وأي واحد؟ فقال يوم الأحد، فكررت عليه وهو لا يزيد عن ذلك، ففي ثاني يوم صباحاً ورد علينا المكتوب من بيروت بحضوره إليها، وكان وصوله إلينا يوم الأحد كما قال المترجم. وكان كثيراً ما تأتي إليه جملة من أكابر المجاذيب ليلاً، فيجلسون عنده ويتذاكرون معه، وإذا مر عليهم أحد سكتوا عن الكلام إلى أن يبعد عنهم، ورؤوسهم متدانية بعضها من بعض، خوفاً من أن يسمعهم أحد. وأما صغار المجاذيب فإنهم لا قدرة لهم على المرور من محلته، حتى لو جرهم أحد يتمنعون من مطانعته، ويظهرون الخوف والتباعد، ومع حالته رضي الله عنه وعدم كلامه كان جمالياً لا جلالياً، يأنس الإنسان به، وليس له حالة فظيعة ولا مسبة ولا كلام بشتمٍ ولا غيره، كما يحصل من بعض المجاذيب، بل كان يسكت عند كلام الناس ولا يجاوب أحداً إلا في بعض الأوقات، إذا كان السرور متجلياً عليه. ولم يزل على حاله إلى أن توفي عاشر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائتين وألف