[التوسل إلى الله عز وجل بإنزاله الكتاب]
ومن أجل قيام الصراع ناسب جداً أن يبدأ هذا الدعاء بالتوسل إلى الله عز وجل بأنه منزل الكتاب، ولذا قال: (اللهم منزل الكتاب)، فالله عز وجل أنزل الكتب من عنده، وخاتمتها القرآن العظيم، فهو خاتمة الكتب المنزلة من عنده التي تضمنت أحكامه وشرعه، وأنزل الله عز وجل الكتاب؛ ليقوم الناس بالقسط، قال عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:١ - ٥].
فالله عز وجل أنزل الكتاب لتكون الحياة على وجه الأرض غير الحياة التي يريدها أولياء الشيطان، أنزله الله عز وجل مستقيماً قيماً لا اعوجاج فيه؛ وذلك ليقوم الناس بالقسط وبالعدل الذي شرعه الله، وليتذكروا اليوم الآخر بدلاً من أن ينشغلوا بدنياهم، فإن فكر الناس واعتقادهم وما يفكرون فيه وما ينشغلون به قضية عظيمة الأهمية، فتأمل فيما يشغل أولياء الشيطان الناس به؛ إنهم يشغلونهم بالشهوات الحقيرة الدنيئة، ويشغلونهم بالطعام والشراب، والجاه والملك والوجاهة واللعب واللهو، ولا يكادون يذكرون القيامة، ولا يكادون ينذرون الناس البأس الشديد الذي من عند الله الذي ينتظرهم، مع أنهم يرون كل يوم لحظة الفراق التي هي من أشد اللحظات التي هي سكرات الموت، فكم من الناس يرحلون! فالضعف الذي يكون فيه الإنسان والألم الذي يعتصره والذي ينبئ عما يحل به بعد ذلك أمر جليل وخطير ينتظر الناس، فالكتاب أنزله الله لينذر بأساً شديداً من لدنه، ولينذر ما الناس مقدمون عليه بدلاً من أن تكون صبغة الحياة هي الجري ورائها بهذه الطريقة التي لا يعرف الإنسان فيها معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، ولا يعرف إلا المال والجنس والملك والرئاسة والصراع على ذلك بكل أنواعه، بل توظف العقائد والأديان والملل من أجل هذه الصراعات الدنيئة الحقيرة.
وقوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:٤]، ففي هذه الآية أن الله أنزل الكتاب ليبطل العقائد الفاسدة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي هي مسبة لله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يقول الله عز وجل: شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، قال: وأما شتمه إياي فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)، فالله سبحانه وتعالى يغضب لذلك، وذكر أن هذه الكلمة عظيمة، فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٨٨ - ٩٥].
وقال عز وجل: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:٥]، وكذلك نزل الكتاب ليبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم أجراً حسناً، وهذا هو الذي ينبغي أن يطلب، وهذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه.
أنزل الله عز وجل الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وذلك أن الله سبحانه ما أنزل الكتاب ليكون مجرد شيء يتزين به في صدور المجالس أو على الأرائك والمكاتب، وإنما أنزله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
فهذه قضية عظيمة الأهمية، ومن أجلها يدور الصراع حقاً، فالكفرة والمنافقون أولياؤهم لا يريدون أن يكون الكتاب الذي أنزله الله هو الذي يفصل بين الناس ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وإنما يريدون أن يكون حكم الجاهلية وآراء الرجال وما اشتهوه من الباطل والأهواء السخيفة المنكرة هي الحكم الذي يتحاكمون إليه، فالله عز وجل أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الله الكتاب والعدل الذي يكون عليه بناء الأمور على كتاب الله، فالكتاب معه الميزان، ومعه القياس الصحيح، فكما أن في المحسوسات ميزان فكذلك في الاعتقادات والأعمال والأقوال ميزان، وهذا الميزان توزن به الأشياء بكتاب الله سبحانه وتعالى.
إن هذا الصراع الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم وقام به أولياء الله عز وجل عبر العصور إنما كان لأجل أن يكون الكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى هو القائم بين الناس، وهو الحكم وهو القسط، وهو العدل الذي يحبه الله، وأن يوزن كل شيء بهذا الكتاب وأن ينظر إلى الحياة الدنيا والآخرة من خلال هذا الكتاب.
فكتب الله عز وجل كلها حق؛ أنزلها الله عز وجل متضمنة كلامه، وجعل القرآن مهيمناً عليها وشاهداً لما فيها من الحق ومبيناً ما زاده أهلها فيها من الباطل والتحريف والتبديل الذي صنعوا، وكذلك مبيناً ما نسخ منها مما كان مشروعاً في وقت وزال تشريعه لحكمة الله سبحانه وتعالى في ذلك.
وبذلك كان من أعظم ما يتوسل به إلى الله سبحانه وتعالى في مواجهة الأعداء قول: (اللهم منزل الكتاب)، فالله عز وجل الذي أنزل الكتاب هو الذي وعد بأن يعم حكمه الأرض، وأن يظهر الدين الذي أنزله فيه على كل الأديان، كما قال عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:٣٢ - ٣٣].
فالنور الذي أنزله الله هو هذا القرآن العظيم، قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:١٥]، فهو الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأوحى إليه مثله معه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو السراج المنير، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:٤٥ - ٤٦]، وإنما كانت الحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم منبعها من الكتاب، وحقيقتها تفصيل الكتاب وليست خارجة عنه، قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:٧].
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشيء من عنده، وإنما هو يبين حقيقة الكتاب، ويبين تطبيقه العملي، وكان الكفار لا يقبلون ذلك، وكانوا يعارضونه ويريدون أن يطفئوا هذا النور، وأنى لهم أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى؟! وهكذا ترى أمة الإسلام عبر العصور، فقد حاول أعداؤها أن يصرفوها عن القرآن العظيم، وأن يبعدوا كتاب الله عز وجل عن حياة الناس، ومع ذلك فشلت المحاولات، وإن هلك في أثناء ذلك من هلك حين قبل الباطل وابتعد عن الكتاب، سواء ابتعد عنه بالكلية، كمن كفر به وحاربه، أو لم يبتعد عنه بالكلية، ولقد مرت ببعض بلاد المسلمين أوقات كان وجود القرآن فيها جريمة عظمى، وكان وجود القرآن لدى إنسان في بيته معناه أن يسجن حتى يموت أو ينفى في مجاهل البلاد التي يهلك فيها من الصحاري والجليد وغير ذلك، ولقد مضت مدة من الزمن كان الناس لا يتعلمون فيها القرآن إلا سراً، وأدرك من ذلك بعض من يعيش اليوم، فقد كان القرآن في كثير من البلاد تهمة عقوبتها الإعدام، ومع ذلك إذا بهؤلاء يذهب الله عز وجل بهم ويدمرهم تدميراً ويبقى القرآن العظيم.
وهكذا لو تأملت تاريخ المسلمين في كثير من محنهم لعلمت كيف كانت المحاولات بصرف الناس عن كتاب الله، ولإطفاء هذا النور الذي لا يطفأ بإذن الله عز وجل، ولذا كان تمسك المسلمين بالكتاب حفظاً وتلاوة واتباعاً وعملاً ودعوة هو سبب نصرهم، فبقدر تمسكهم بهذا الكتاب بقدر ما ينزل الله عليهم من النصر، وبقدر ما ينزل على أعدائهم من العذاب، ويلقي في قلوبهم الرعب والزلزلة ويهزمهم سبحانه وتعالى، فحاجتنا هي أن نتمسك بالكتاب الذي أنزله الله، وحاجتنا هي أن نتعلم آياته آية آية، ونمرها على القلوب ونتدبر ما فيها ونعمل بها، ونكثر استعمالها، لا أننا نغيب القرآن عن حياة الناس أو عن الدعوة أو عن البيان.
فمثلاً: أنت إذا قلت للناس: هذا الشيء حرام، قالوا: ليس بحرام، وإذا قلت لهم: هذا الشيء منهي عنه، وهذا الأمر لا يجوز، قالوا: بل يجوز، وليس بمنهي عنه، أما لو كنت على بينة من أمر الله عز وجل، وقلت لهم: قال الله كذا، فسوف تجد أمراً آخر، وسوف تجد تغيراً في استقبال الناس لهذه الدعوة، ولذا كان من سمات منهج السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم كثرة الاستدلال بالآيات القرآنية كما أنهم كانوا يكثرون الاستدلال بالأحاديث النبوية، وهي ليست بخارجة عن كتاب الله، بل هي مثله في التحليل والتحريم، وكذا بعده في البيان والإرشاد، وهي تتضمن معنى النور الذي فيه، وتبينه وتوضحه للناس، كما قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤].
فنحن نحتاج إلى أن نتلو آيات الله في كل المواطن، وبدلاً من أن تقول رأياً أو تعضده بقول فلان أو تقول: العالم الفلاني أفتى بكذا، هذا الأمر ليس بالقوي في النفوس، وسوف يُعارض بأيسر طريق، أما