وقوله:((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ)) تأمل في هذه الألفاظ، فمجرد مسيس عذاب يخاف على أبيه منه فهو لا يخاف فقط أن يلقى في النار، وإنما يخاف أن تمسه النار، فهو يظهر له مدى شفقته، وأن مجرد أدنى مس للعذاب يخاف عليه منه، فتأمل ذلك! فلو كان قلب أبيه يتحرك لتحرك، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى وما شاء فعل.
ولكن إنما ذلك ليكون أسوة حسنة في الدعوة إلى الله، في الصبر والاحتمال، حتى ولو لم ير أثراً لذلك.
وقوله:((يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ))، فإذا عذبك الرحمن فمن يرحمك إذاً؟ فالرحمن الذي صفته الدائمة اللازمة له الرحمة إذا عذب فمن يرحم؟ فالله سبحانه إذا لم يرحم عبده فلن يرحمه أحد، فهو الرحمن وحده.
وإنما استوجب العبد العذاب لما فعله واجترمه، وليس لأن الله عز وجل لم يرحمه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يحرمه ما يستحق.
وإنما هو الذي فعل ما استوجب به عذاب الرحمن.
أما الرب سبحانه فالرحمة أحب إليه من العذاب والعقاب، ورحمته سبحانه تغلب غضبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي، أو: إن رحمتي تسبق غضبي) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فالله قد كتب على نفسه الرحمة، كما قال عز وجل:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ}[الأنعام:١٢] فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، فإذا عذب فقد أخرج الإنسان من رحمته وأي رحمة، ولذا لا ترحمه الملائكة، ولا المؤمنون، ولا شركاؤه في النار، ولا يرحمه أحد، بل لا ترحمه نفسه، فيمقت نفسه ويبغضها، فينادي مع أهل النار.