للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القرآن يدعو إلى التفكر في مخلوقات الله وأماكن عيشها]

إن القرآن يبين لنا معاني معينة لابد أن تلتفت لها القلوب، ويدعوك إلى أن تتفكر فيما في البر، وأن تتفكر فيما في البحر، ولا يحيط بما في البر علماً إلا الله، فالنمل الذي يخرج من بيوته عندما تشتد حرارة الأرض، لا نعلم أين مكانه في هذا الوقت وكيف نجده، وإذا راقبناه وتبعناه فسنجده قد وصل إلى مكان معين، والحشرات المدفونة لا نعرف أين هي، وسبحان الله فهي موجودة في جحورها، وفي أماكن كثيرة، وتحت الأرض، فهذا عالم عجيب، فهو عالم تعيش فيه كائنات كثيرة جداً والله عز وجل هو المحيط بها علماً.

وما في البر من بذور النباتات وغاباتها: إذا ما دخلها إنسان أو دخل أجزاء منها يقول: يا للعجب! كل هذه منذ آلاف السنين موجودة، وبذورها تكبر وتنمو وتصبح بعد ذلك أشجاراً هائلة، وفي مناطق كثيرة هائلة من العالم والبشر لا يعلمون عنها شيئاً، بل وهناك أماكن غير مأهولة بالبشر، وكذلك الغابات الاستوائية: ففيها حيوانات لا يعلمها إلا الله، ومن العجيب أن رجلاً رأى قرداً مثل الأصبع، وفيه تفاصيل الخلق وله وجه وعينان وأذنان، وقد كان هذا بعد نموه وهو لا ينظر إلا في الظلام فقط، متعلق بذيله في الشجرة، وقد أتوا به ووضعوه في حديقة الحيوان بهذه الطريقة، وهذا شيء عجيب جداً، وتذكر هذا الرجل ما يكون في بطن الأم حين يخرج الإنسان جنيناً وفيه كل التفاصيل، وهذا شيء عجيب جداً، فسبحان الله! فالمخلوقات عجيبة الشأن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ)).

وأما في البحر فأمر آخر عجيب، فالبحر هو أربع أخماس الكرة الأرضية، والأرض خمسها، وهذه الأرض لا يحيط بها علماً إلا الله، والبحر أعظم من الأرض، حيث أن أعماق البحار ظلمات بعضها فوق بعض، وأمواج تلو أمواج تجعل ما تحتها أشد ظلاماً من انكسار الأشعة، كما قال عز وجل: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:٤٠]، وهذه الظلمات الموجودة في البحر لم يدخلها إنسان، وإن دخلها فإنه يجد أعاجيب من المخلوقات، فلو أخذت قطرة من ماء من أي ممر مائي سواء كان ماء عذباً أو ماء مالحاً، ووضعت جزءاً منها على شريحة، ونظرت تحت الميكروسكوب، فإنك ستلاقي فيها كائنات عجيبة: طحالب ونباتات وبكتيريا وأشياء عجيبة جداً، فكل قطرة من الماء تتركب من ضوابط معينة ونسبة معينة من الأملاح، ولابد من هذه النسب المنضبطة وإلا فسيحصل خلل في حياة البشر، فلو أن الماء المالح صار عذباً والعذب صار مالحاً لحصل خلل في حياة البشر، فالتوازن هذا عجيب جداً، ناهيك عن الكائنات الكبيرة الهائلة.

إن الإنسان عندما يفكر في هذه المخلوقات يطرأ على ذهنه أنه من الذي أحاط علماً بذلك؟ حتى إن أعظم وأعتى الدول التي تملك الكمبيوتر وكل المعلومات لا يحيطون علماً بذلك أبداً، بل يجب على الإنسان حين يعرف هذا أن ينكسر، ولابد أن يعرف أنه جاهل؛ لذلك فإن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار.

أي: أن الإنسان لا يقول أبداً: أنا عالم، كيف يقول: أنا عالم، وهو لا يعرف شيئاً، بل لا يعرف ما الذي بداخله، إن الذي بداخله إلى هذا اليوم عالم عجيب، عالم في كل وقت نكتشف منه شيئاً جديداً، وإن الله كلما أعطانا قدرة أكثر على النظر، كالميكروسكوب الذي يكبر صور الأجسام، فإننا نرى أنَّ الذي كنا نراه ثقباً أصبح ليس بثقب، كانوا يظنون وكنا نظن أن جدار الخلية ثقوب وهي ليست بثقوب، بل هي مواد مركبة بطريقة معينة من أجل أن تؤدي وظيفة معينة، فكلما عرفنا أكثر كلما عرفنا أننا قبل مدة كنا لا نفهم شيئاً، ونحن الآن لا نفهم شيئاً بالنسبة للعلم الكامل، ولذلك فإن هذا المعنى عظيم الأهمية في نفس المؤمن، كما قال الخضر عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وقد وقف عصفور على طرف السفينة فأخذ قطرة من ماء البحر، فقال: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، وهذا معنى عظيم، فلابد أن يحصل في قلب المؤمن أنه يصف نفسه بالجهل يوماً، فإن أعلم الخلق بالله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري)، وهو أعلم الخلق بالله، ولكنه يقول ذلك، ويتوسل إلى الله بعلمه عز وجل، ويعلم أصحابه فيقول: (اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت).

قال عز وجل: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)).

فهنا يرشدنا القرآن إلى التفكر في هذا الأمر العجيب، إلى سقوط ورقة من شجرة في غابة من غابات الأرض على الأرض، ففي أثناء سقوطها تتقلب عدة مرات وتستقر على أي وجه من وجوهها، ثم بعد نزولها في الأرض تغور منه سنين طويلة حتى تتحلل، فإذا تحللت صارت بعد بترولاً، وهذا البترول كان في باطن الأرض، وجد من مركبات هيدروكربونية مصدرها أصلاً من مواد حية، هي في الأصل: أوراق ونباتات وأشجار وكائنات حية استمر الدفن عليها في الأرض وبعد سنين طويلة تحولت إلى هذه المواد، فسبحان الله! لأن تركيبها هو تركيبة المواد الهيدروكربونية التي هي من المواد الحية، فلذلك لا أحد يستطيع أن يصنع وقوداً من عناصر الأنسجة هذه؛ لأن الوقود مصدره المادة الحية، فنحن لا نستطيع تركيب البترول، بل لابد أن يستخرج من باطن الأرض، وكذلك الغازات الطبيعية، فكلها في الأصل مواد، فعندما نزلت هذه الأوراق في باطن الأرض استمرت سنين طويلة حتى صارت بنزيناً والله عز وجل هو الذي يعلم ذلك.

إنَّ السلف يقولون: إن الله يعلم كم مرة تتقلب هذه الورقة، وفي أي زمن، وفي أي غابة، وفي أي مكان؟ فعندما يبدأ المرء في معرفة هذه المعاني فلابد أن ينكسر لله عز وجل، ولابد أن يقر على نفسه بالعجز والجهل.

((وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)).

كذلك الفلاح حين يبذر بذرة في الأرض، وهذا من أجل أن نفكر في الرطب واليابس والحبات التي تزرع في الأرض، فإنه يعلم أنه يرزع أرزاً أو قمحاً أو شعيراً، ولكنه لا يمكن أن يعرف كم حبة في يده؟ ولا يعرف أي حبة ستنبت وأي حبة ستموت؛ لأن هذه الحبات لن تنبت كلها، بل بعضها يجف وبعضها ينبت، وبعضها يكون زرعاً وبعضها يكون سنابل، قال تعالى: ((وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))، فكل ذلك كتب في الكتاب المبين في اللوح المحفوظ.

هذا هو الإيمان بعلم الله وبكتابة المقادير، وعندما يوقن الإنسان بهذه المعاني فإنه لا يمكن أن يغتر بعلمه، بل يصف نفسه بالجهل؛ لأن الغرور بالعلم مرض العصر الحديث، وهو مرض الكفرة -والعياذ بالله- الذين وصفهم الله بأنهم: {لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:٦ - ٧]، وهذا الكلام كله في كوكب الأرض، فما بالك في الكواكب البعيدة الأخرى؟ وما بالك في هذه النجوم والمسافات الهائلة التي بيننا وبينها؟ فالله عز وجل علم ما في السماوات والأرض؛ لأنه سبحانه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:٧٣]، لا يغيب عنا، وإنَّ ما فوق هذه السماوات، وهذه الأشياء كلها تجعل الإنسان لا يغتر بعلمه أبداً، لا بالعلم الديني ولا الدنيوي، وهذا العلم الدنيوي هو الذي جعله الكفرة إلهاً لهم في هذا الزمان يعبدونه من دون الله.