[تهديدات الكافرين للدعاة إلى الله]
قال سبحانه وتعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم:٤٦]، بعد أن أعرض عن كل الحجج، بل صار منكراً على إبراهيم عليه السلام، اندفع يستنكر عليه: كيف يرغب عن آلهته التي يصنعها، وكان فيما يذكرون ينحت هذه الأصنام لقومه والعياذ بالله.
فإبراهيم كان راغباً عن الآلهة التي تعبد من دون الله، والرغبة في الله لا تحصل إلا بالرغبة عن آلهة المشركين، وتوحيد الله عز وجل لا يحصل إلا بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، كما قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٥٦]، فلا يبنى الإسلام إلا على أنقاض الجاهلية والشرك، فلا بد أن تهدم هذه الجاهلية وهذه العقائد الفاسدة في النفوس كما تهدم في الواقع؛ ذلك أنه لا تتحقق دعوة التوحيد في قلب إنسان وهو يقر بعبادة غير الله.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:٢٦ - ٢٧]، وليس ولوده على ملة أخرى بمقتضٍ لصحة منهجه طالما كان يعتقد صحته كما يقول الزنادقة والمنافقون الذين يصححون مللاً غير ملة الإسلام، ويرونها حقاً كما أن الإسلام حق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، يقول الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩]، ويقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:٨٥].
فهم أبو إبراهيم وأيقن أن إبراهيم راغب عن آلهته، فصار يتوعده ويتهدده: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:٤٦].
قيل: لأشتمنك، وقيل: لأرجمنك بالحجارة، وهو أقرب إلى ظاهر اللفظ؛ ذلك أنه كان يؤذيه بالكلام، فالظاهر أنه كان يريد أن يزيد على تلك الأذية بالفعل، قال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:٤٦]، كما قالها قوم نوح عليه السلام لنوح عليه السلام حتى يترك الدعوة إلى الله عز وجل، وكما يقولها كثير من الآباء والأقارب وأهل القوم والوطن والجيران والمعاملين لمن يدعو إلى الله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:٤٦] {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:١١٦]، وقالها قوم لوط: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:١٦٧]، وقالها قوم شعيب لشعيب عليه السلام: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:١٣]، وقالتها الأقوام لرسلهم، فدائماً كانوا يهددونهم بالإخراج من الأرض، وغير ذلك من أنواع التهديد، وقالها فرعون لموسى حين قال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:٢٩]، فلابد أن يتوقع الداعي إلى الله سبحانه وتعالى أنواع التهديد إذا استمر في طريق الدعوة، ولكن هذا لا يثنيه ولو فعلوا ما فعلوا؛ فإنه صاحب رسالة يؤديها، وهو متبع للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى بكل ما استطاع، وبكل ما أمكنه، ولا يؤثر فيه هذا التخويف؛ لأنه يركز فكره في يوم القيامة، ويخاف وعيد الله عز وجل أكثر مما يخاف وعيد الناس.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:١٣ - ١٤].
فهذا التهديد والوعيد لا يوقف الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان استعماله لوسائل الدعوة ولانتقائه للشخص والمكان قد يختلف، فقد يعرض عن قوم وينشغل بغيرهم، ويرحل عن بلد فيتجه إلى بلد أخرى، كما هاجر إبراهيم عليه السلام وذهب إلى ربه، فأبدله الله سبحانه وتعالى خيراً من قومه، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:٩٩].
واعتزلهم بعد حين بعد أن بلغ دعوة الحق، وهكذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتولى عنهم فما هو بملوم، كما أمره الله فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:٥٤].
فمن أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وأصر على الإعراض، وذكر مرة بعد أخرى، فلينشغل الداعي إلى الله عز وجل بغيره، وليبحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته إلى الله، إن عجز أن يقيمها وأن ينشرها في مكان ما.
قال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:٤٦] أي: اهجرني طويلاً طالما بقيت على ذلك.