لم يبق بعد هذه الأنواع الثلاثة -الملك المستقل، والشركة، والمعاونة- إلا الشفاعة؛ فأثبت الله الشفاعة الشرعية ونفى الشفاعة الشركية، فقال:((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ))، فلا يملك أحدٌ الشفاعة، إنما الشفاعة جميعاً له سبحانه كما قال عز وجل:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزمر:٤٤]، فهو سبحانه له ملك السموات والأرض، وتأمل الاقتران بين ملك الشفاعة وملك السموات والأرض، فهو وحده الذي يملك الشفاعة؛ ولذلك لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والشفاعة دعاء وتضرع إلى الله سبحانه من الشافع، حتى يضم طلبه إلى طلب المشفوع فيه ليكون طلباً شفعاً -أي: زوجاً- وذلك ليقضي الله ما يشاء، وهو سبحانه وتعالى لا يبدأ عنده بالشفاعة حتى يأذن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علم في الدنيا قبل الآخرة أنه الذي أُعطي الشفاعة، وذلك عندما يذهب إليه الناس يوم القيامة، فيقولون له:(اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا لها أنا لها)، ومن دونه من الأنبياء لم يعلموا أن لهم الشفاعة فلذلك لم يسألوها ابتداء، وإنما قال كل منهم: نفسي نفسي، وهم أولو العزم من الرسل الذين أفنوا أعمارهم في طاعة الله ومرضاته، ومع ذلك هابوا وخافوا أن يسألوا ربهم في ذلك الموقف غير أنفسهم.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلأن الله أوحى إليه أن له الشفاعة، وأنه لها، قال:(أنا لها، فيأتي فيدخل على ربه في داره) أي: وهو سبحانه فوق عرشه الذي هو سقف لجنته، وجميع المخلوقات تحته، قال (فآتي فإذا رأيته خررت له ساجداً قدر جمعة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويفتح الله عليه من حسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحدٍ قبله، وقال في حديث آخر:(لا أستطيعه الآن، ثم يأذن له الله عز وجل أن يرفع رأسه، ويقول له: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطى، واشفع تشفع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإخلاص والتوحيد من أمته بالنجاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه:(من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما ينتفع بشفاعته أهل الإخلاص، ثم يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون في من لا يشرك بالله شيئاً، فيخرجونهم من النار بأمر الله سبحانه وتعالى، ثم يعود النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة فيقول:(يا رب! ائذن لي في من قال لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله).
إن الله عز وجل جعل النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لنجاة الخلق من أهوال القيامة، ثم في دخولهم الجنة، ثم في نجاتهم من على الصراط، ثم في خروج أقوام منهم من النار بعد أن احترقوا فيها، ثم يطلب من ربه أن يرحم من قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط؛ فيخبره الله عز وجل أن ذلك ليس له، ولكنه سوف يفعل ذلك سبحانه وتعالى حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: من وجب عليه الخلود بموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، فدل هذه كله على أن الشفاعة مملوكة لله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات الكريمة دالة على ذلك:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:١٣ - ١٤]، وقوله سبحانه:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ}[سبأ:٢٢ - ٢٣]، هي التي قال عنها أهل العلم: إنها تقطع فروع الشرك من القلب لكمال التعلق بالله سبحانه وتعالى، ودليل هذا الأمر خوف الملائكة من الله عز وجل ((حَتَّى إِذَا فُزِّعَ)) أي: حتى إذا زال الفزع الذي أصاب قلوبهم؛ بسبب سماعهم كلام الرب سبحانه، فخافوا أن يكون نزل أمر فيه هلاك العالم، فعند ذلك يخرون لله سجداً، ويكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيوحي الله إليه من أمره ما شاء، وينزل بأمر الله إلى السموات ومن فيهن من الملائكة، فيقولون وقد رفعوا رءوسهم لما زال الفزع عن قلوبهم: ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول: ((الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))، فيقولون كلهم مثل قول جبريل:((الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ))، فهذا كله دليل على أن الله وحده هو المالك لكل ما في هذا الوجود، ولا يملك أحد دونه شيئاً، حتى على سبيل الشفاعة فإنها مملوكة له لا يملكها الشافعون، فهو الذي يأذن لأهل التوحيد والإخلاص -لمن شاء منهم- أن يشفعوا في أهل التوحيد والإخلاص، ولا يشفعوا في أهل الشرك، ولا تنفع المشركين شفاعة الشافعين، وهو الذي يأذن للشافعين ليغفر للمشفوعين عن طريق دعاء الشافع، لينال الشافع بذلك المقام العالي، وليعلي قدره، ويري الناس منزلته.
وأعلى الناس في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل له في محكم كتابه:((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من شجوه في وجهه، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، فاستبعد هدايتهم وفلاحهم، فقال:(كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟!) ودعا على أعيان منهم شهراً، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عمران:١٢٨] فتاب الله على من سماهم النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه جميعاً، فهداهم إلى الإسلام، ومن دعا لهم بالمغفرة وحرص على هدايتهم فإن بعضهم لم يقبل فيه ذلك، كـ أبي طالب فإنه قال:(لأستغفرن لك ما لم أنه عنه)، فأنزل الله عز وجل:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة:١١٣]، وأنزل الله في أبي طالب:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:٥٦]، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزور قبر أمه استأذن ربه في ذلك فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له.
فالله عز وجل هو مالك السموات والأرض ومن فيهن، وهذا كله يجعل العبد لا يسأل ولا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه وتعالى، ولا يرى لنفسه ملكاً ولا حقاً، بل يرى نفسه مملوكاً من كل وجه، ويجب أن يتصرف -فيما أعطاه الله من سمع وبصر ويد ورجل وبطن وفرج ومال وأهل، وغير ذلك من أنواع التصرف والتمكين والسلطان- يتصرف فيه تصرف العبد المملوك لا تصرف المالك الحر، ولذلك فإن قضية الحرية لا بد أن توضع في نصابها، فالحرية إنما تكون بين العباد بعضهم بعضاً بما شرع الله سبحانه وتعالى، أما أن تطلق قضية الحرية ويقال: إن الناس أحرار حتى مع أوامر الله وشرعه، فيأتون ما يريدون ويتركون ما لا يريدون، فهذه منابذة للربوبية، ومنازعة لله عز وجل في أخص معنى من معاني الربوبية وهو معنى الملك، فالله سبحانه وتعالى هو الملك الحق، وهو المالك الحق، فمن زعم أنه يملك نفسه، وأنه يفعل ما يشاء دون أن يرجع إلى أمر الله وشرعه، فهو ينازع الله في ربوبيته، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن لا رب إلا الله، بل زعم أنه رب مع الله، وإذا زعم أن له على غيره من الخلق ذلك، وأنه حر يفعل فيهم ما يشاء دون أن يراجع، فهو منازع لله في الربوبية وشقيق لفرعون وإبليس اللذين زعما أنهما أرباب بلسان الحال أو المقال.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.