[المنطلق الأول للدعوة: العلم]
فأما الأمر الأول: فهو العلم ولا نعني به مجرد إدراك أو فهم المسائل، ولكنه ما ذكر الله عز وجل في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨].
إذاً: فلابد أن يكون من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، على بصيرة، ولكن -كما ذكرنا- أساس البصيرة العلم، والبصيرة بالنسبة للقلب كالبصر بالنسبة للعين، فالإنسان يبصر بالعلم الحقَّ من الباطل، والسنةَ من البدعة، والهدى من الضلال، فبدون العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته وحقوقه تفقد الدعوة روحها وحقيقتها، وبدونه تكون الدعوة دعوة مفرغة من مضمونها ومن حقيقتها، فلابد أن يكون الداعي إلى الله عز وجل على علم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:٩]، وقال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:١١]، وقال عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:١٨]، فبدأ بنفسه سبحانه وتعالى، ثم ثنى بالملائكة ثم ثلث بأولي العلم، ولا شك أن في ذلك دليلاً على علو شأنهم وارتفاع قدرهم.
وقد ذكر الله تعالى بأن العلماء هم الذين يخشونه من بين عباده، قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]، فالعلم هو الخشية، فكفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً، وقال سبحانه وتعالى في ذم الذين لا يفقهون: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:٧]، وقال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:٨]، وقال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:٦]، وقال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:٥٦]، فذكر عز وجل أن انعدام العلم والفقه في الدين هو صفة الكفرة والمنافقين، وهذا من أعظم المنفرات من إهمال طلب العلم ومن تضييعه وعدم الحرص عليه؛ فإن الجهل يعتبر من الأمراض التي تقتل القلوب وتميتها والعياذ بالله، بل وتدمر الأمم، فهي علامة على قرب خراب الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يكثر الجهل ويقل العلم) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينزعه بقبض العلماء، فإذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه الكتاب).
فكان يدعو لمن يحب عليه الصلاة والسلام بالفقه والعلم، وهذا يقتضي منا مزيد اهتمام بمداواة هذا الداء العضال الذي ينتشر انتشار النار في الهشيم؛ داء الجهل بدين الله عز وجل، حتى وجد الكفر أحياناً والناس تظنه إيماناً وهدى.
وإن كنا كثيراً ما نتكلم عن العذر بالجهل، فذلك لا يعني فضيلة الجهل حتى يكون الإنسان حريصاً على بقائه، بل هذا الجهل الذي يكون العذر فيه هو الناشئ عن عدم البلاغ، ويكون عذراً في عدم التكفير فقط، ولا يعني أنه يكون عذراً في عدم الإثم، بل إنه يأثم بجهله إذا كان العلم قد وجب عليه، فإن الإنسان إذا وجب عليه عمل معين، فإنه يلزمه أن يتعلم العلم الذي يصح به هذا العمل، وإلا أثم بترك طلب العلم، فمن بلغ وهو عاقل فقد وجب عليه أن يتعلم فقه الطهارة والصلاة والصيام، وإذا كان له مال وجب عليه أن يتعلم فقه الزكاة، وكذا الحج إذا وجب عليه، ومن تزوج وجب عليه أن يتعلم فقه الزواج، ومن طلق وجب عليه أن يتعلم فقه الطلاق، حتى يؤدي كل امرئ الحقوق التي عليه، ولذلك نقول: إن الجهل الناشئ عن الإعراض عن الحجة ليس بعذر، وكذا التقصير في طلب العلم ليس بعذر في وقوع الإثم، بل إن الإنسان يأثم بما ترك من العلم الواجب عليه بالإضافة إلى تركه العمل الذي لزمه، فإن ترك العلم من أجل ترك العمل ليس بعذر.
وكثير من الناس يرى أنه ينبغي أن يُترك جاهلاً، فيقول لك: لا تخبرني بهذا الأمر؛ لأنك إذا أخبرتني لزمني، والأمر ليس كذلك، فإنه لازم له حتى ولو لم تخبره؛ لأنه قادر ومتمكن من العلم، والتمكن من العلم يجعل الإنسان آثماً إذا ترك الواجب الذي عليه من ذلك، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، وليس المقصود به العلم الدنيوي؛ لأن العلوم الدنيوية بلا علم شرعي كلا علم، قال عز وجل: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٦ - ٧].
فلما كان علمهم مقتصراً على الدنيا وصفهم الله بأنهم ليس عندهم علم، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فعلم الدنيا بلا علم الآخرة كعدم العلم، ولذلك لا يجوز أن نطلق على الكفرة أنهم علماء، بل لابد أن تقيد بأنهم علماء دنيا أو علماء في الباب الفلاني، فلا يصح الإطلاق فيهم؛ لأنهم أجهل من الدواب، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:١٧٩].
ومن هنا نقول: إن أمر العلم لابد أن يكون أحد المنطلقات الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يحرص عليه الكبير والصغير، ولا يتوقف عند مرحلة معينة من عمر الإنسان، بل كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة، فيبقى الإنسان طالباً للعلم ولو مع كبر سنه، أو تقدم عمره، أو ضعف جسده، فكل ذلك فيه الثواب العظيم، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرحلون في طلب العلم أشهراً رغم كبر سنهم وسبق منزلتهم، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أحد أكابر الأنصار وممن شهد المواقع الكبرى، وهو في سنه الكبير يسمع أن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يشافهه النبي صلى الله عليه وسلم به، فيشتري بعيراً ويضع عليه رحلاً ويرحل إلى الشام شهراً، يسير ذهاباً شهراً وإياباً شهراً؛ ليسمع حديث القصاص، الذي جاء فيه: (لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها)، ويرجع من يومه الذي وصل فيه، فقد سافر شهرين متتابعين؛ لأجل أن يسمع حديثاً واحداً، رغم كبر السن وعظم المنزلة.
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام يخبره الله عز وجل أن هناك عبداً هو أعلم منه، وهو في الحقيقة أعلم منه ببعض المسائل وليس مطلقاً، ولكن الله عز وجل أطلق ذلك لأجل أن يعلم موسى، ولأجل أن يجعله متواضعاً لله سبحانه وتعالى، بل قد قال الخضر: يا موسى إنك على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، ثم وقف عصفور على حرف السفينة فقال: وما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، فكان الخضر أعلم نسبياً، يعني: أعلم من موسى عليه الصلاة والسلام في بعض المسائل، قص القرآن علينا منها ثلاث مسائل.
فانظر كيف أن رحلة طويلة قضاها موسى صلى الله عليه وسلم وجد فيها ما وجد من التعب والنصب؛ وذلك ليطلب ثلاث مسائل، وهذا يدلنا على أن الإنسان مهما بلغ من القرب من الله، فإن عليه أن يزداد من طلب العلم وإن وجد ما وجد من المتاعب والمشاق في سبيل تحصيله، ويدلنا كذلك على شرف طلب العلم وأهمية الحرص عليه، ولو كان لمسألة واحدة يسافر الإنسان إليها.
ولهذا فالفضل بعد الله سبحانه وتعالى في وصول العلم الشرعي إلينا يرجع إلى علماء الحديث والآثار، وما بذلوا من جهد في طلب الحديث، فقد كان الواحد منهم يسافر البلاد البعيدة من أجل حديث واحد، فلولا هؤلاء بعد الله سبحانه وتعالى لما اجتمعت لدينا هذه الكتب العظيمة التي فيها درة الإسلام وبيان كلام الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.