للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الله تعالى على بني إسرائيل]

ذكر الله سبحانه وتعالى فضله على بني إسرائيل، وهو فضل منه سبحانه على كل مؤمن؛ إذ صارت آية من آيات الله، وسنة من سننه ماضية فيما يفعله بأوليائه وأعدائه، قال عز وجل: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، ونسب سبحانه وتعالى الفعل إلى نفسه وهو المجاوزة، ولم يقل: وتجاوز بنو إسرائيل البحر مع أنهم يتحركون بإرادتهم، ويفعلون ذلك باختيارهم، ولكن منة الله عز وجل بهداية المؤمنين وتوفيقهم وإعانتهم وتقويتهم لابد أن يشهدها المؤمنون في هذا المقام دائماً.

فقوله: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) فيه: كأنهم محمولون، والله عز وجل يذكر فضله على عباده المؤمنين بذكر أفعاله بهم، فليس للمؤمن أن يرى لنفسه الفضل، أو أنه هو الذي أنجى نفسه بتدبيره أو عمله أو سعيه، فلابد أن يشهد بالفضل لله عز وجل.

ومعنى: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)) أي: فلق الله عز وجل البحر لموسى، وهذا سبب آخر لذكر المجاوزة كفعل من أفعال الله سبحانه وتعالى ببني إسرائيل، فالله الذي جاوز بهم؛ لأنهم ما كانت لهم قدرة ولا طاقة بأن يتجاوزوا ذلك البحر إلا بما فعله الله لهم من فلق البحر بعصا موسى، وقد ذكر الله عز وجل تفاصيل هذا الانفلاق العظيم في موضع آخر من كتابه في قوله سبحانه في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:٥٢ - ٦٨].

سنة من الله عز وجل ماضية أن البلاء يصل إلى غايته، وعند ذلك يأتي الفرج.

أمر الله موسى صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي أن يسري ببني إسرائيل، وأن يسير بهم ليلاً، واجتمع بنو إسرائيل جميعاً على طاعة موسى، وخرجوا في تلك الليلة حتى وصلوا إلى ساحل البحر، وفي الليل أدركهم فرعون وملأه، ولا شك أنهم مدركون ما وقع من بني إسرائيل، وأنهم قد رحلوا من مصر كلها، وفرعون متربص بهم، ويوجد من يخبره بخبرهم، فأعلن التعبئة بأسرع ما يمكن، وأرسل للجنود حاشرين في مدائن مصر كلها، وخرج الجنود بالفعل وهم جميع على حذر، مجتمعون على طاعة فرعون رغم ما رأوا من آيات كذبه وبطلانه، ورغم ما رأوا من آيات صدق موسى، وأنه جاء بالحق، ومع ذلك قال تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:٩٧]، وذلك لأنهم كانوا قوماً فاسقين، فالفسق يؤدي إلى العمى، وانعدام البصيرة، حتى يتبع الإنسان الباطل علناً جهاراً، كما قال عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤].

ولقد كان موسى يعلم أن السرى بالليل لن يغني عنه من متابعة فرعون، بل لابد أن يتبعه فرعون وجنوده، وأن المشي ليلاً والإسراع إلى ساحل البحر لن يغير من الأمر شيئاً، وإن كان بنو إسرائيل قد تعلقوا بهذه الأسباب، وظنوا أنهم سوف يفوتون فرعون بالخروج ليلاً، والإسراع سراً، وما ذاك بحاصل، وإنما ينجون برحمة الله، وخرجت جموع جنود فرعون واجتمعت وحفزهم فرعون بأنواع التحفيز، فقال لهم: إن بني إسرائيل قلة قليلة، وإنهم يغيظون فرعون وملأه، وهذا عندهم من أعظم الجرائم، فإغاظة فرعون تقتضي الإعدام والتقتيل والتذبيح وغير ذلك، فإنهم إذا أغاظوا فرعون فلابد من الانتقام، هكذا ربي هؤلاء الجنود، واتبعوا إمامهم إلى النار والعياذ بالله فقالوا كما أخبر الله: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:٥٤ - ٥٦] فهم قد أخذوا العدة بكل أنواعها، اجتمعوا وهم ألوفٌ مؤلفة.

قال عز وجل مبيناً حقيقة الأمر: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ)) فكان الأمر، أن الله هو الذي قدر ذلك ليخرجهم، وفعل الله عز وجل ذلك بهم عدلاً منه وحكمة، وأراد سبحانه وتعالى أن يخرجهم مما كان متعهم به من الجنات والعيون والكنوز والزروع والمقام الكريم، والنعمة التي كانوا فيها فاكهين، أخرجهم سبحانه وتعالى بقدرته، وقد كانوا في سعة، ولو تركوا بني إسرائيل لكانوا في سعة، ومع ذلك خرجوا إلى مصيرهم وهم يظنون أنهم ينتقمون من عدوهم، وما كانوا يظنونها إلا فسحة أو نزهة، فإن بني إسرائيل ما قاموا لهم قط، ولا كان في قدرتهم أن يقوموا في وجوههم، ولكن يقدر الله بسنته الماضية المتكررة أن الفرج لا يأتي في أول الأمر، فوصل فرعون بالفعل إلى بني إسرائيل، كما قال الله: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:٦٠] فعند شروق الشمس وصل فرعون بالفعل إلى ساحل البحر.