[الخسران المطلق لمن أطاع أعداء الله]
قال سبحانه وتعالى: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) جمع الله لهم الدنيا والآخرة، فأتتهم الدنيا وهي راغمة؛ لأن الله أمرها أن تأتي إليهم، آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وتأمل هذا الجمال أن الله عز وجل لم يقل في (ثواب الدنيا) حسن ثواب الدنيا؛ وذلك أن الدنيا وإن كان فيها نعيم فإنها لا تكمل لأحد، وليست خالصة بل لابد أن تشاب، وأما ثواب الآخرة فهو الثواب الحسن، وهو الذي يستحق أن يوصف بالحسن؛ ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) فهو عاملهم الله بأحسن ما عملوا، وآتاهم أحسن الثواب بفضله عز وجل: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)).
وأما من أطاع الكفار فإن الآيات تبين أنه خسر ((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ))، الخسران المطلق، وهذا يشمل خسران الدنيا وخسران الآخرة، ونعوذ بالله من ذلك، والله ما ينالون دنيا ولا ينالون آخرة هؤلاء الذين أطاعوا الكفرة.
قال عز وجل عن المؤمنين: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا الإحسان في هذا المقام هو إحسان فيه عبادة الله عز وجل، وهو كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) والإحسان الذي يحبه الله عز وجل هو الإخلاص، والتوكل على الله، واللجوء إلى الله عز وجل، والتضرع لله سبحانه وتعالى، والصبر، وعدم الوهن، وعدم حب الدنيا، وعدم الضعف في طاعته، وعدم الاستكانة للعدو، والتحمل في سبيل الله عز وجل، فإذا حققت عبادات القلب صرت محسناً، والإحسان في عبادة الله عز وجل -فيما بينك وبين الله- يثمر، وينعكس الإحسان إلى الخلق من الإحسان في عبادة الله عز وجل، فإذا أحسنت في عبادة الله وفقك الله عز وجل للإحسان إلى الناس، فأحبك الله عز وجل وأحبك الناس، ومن أحبه الله سبحانه وتعالى قذف محبته في قلوب الخلق، ونادى جبريل في أهل السماء: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)؛ وذلك أن الله عز وجل أحبه، فأحبه جبريل وأحبه أهل السماء وأحبه أهل الأرض، والمؤمنون الصادقون هم علامة أو خلاصة أو حقيقة أهل الأرض.
أما الذين يعيشون على وجه الأرض كالأنعام بل هم أضل، فإنه لا قيمة لحبهم ولا بغضهم ولا أثر له، وإنما علامة حب المؤمنين بأن يوضع له القبول في الأرض، فترى قلوب المؤمنين تفد إليه بأنواع البر والإحسان والحب والقبول، فهم شهداء الله في أرضه.
وأما إذا وجدت الكفار يحبون -مثلاً- زعيماً لهم؛ لأنه سلطهم على من خالفهم، أو لأنه خدعهم بأنواع الخداع مثلاً، فأحبوه أكثر، فليس هذا بالأمر المعتبر، فهم لا قيمة لهم ولا عبرة بهم وليسوا بشهداء الله في أرضه.
إذاً: فالحشيش مثلاً والزروع هي أحب شيء؛ لأن الأبقار والأغنام تأكل ذلك، فهؤلاء كالأنعام بل هم أضل، فلا عبرة بحبهم وبغضهم، وإنما يعرف ذلك بمحبة أهل الإيمان وبغض أهل الإيمان، والمفتاح العظيم لجذب قلوب المؤمنين هو تحقيق الإحسان، وتحقيق الصبر، وترك الوهن وترك الضعف، وترك الاستكانة للكفار، وترك موالاتهم وطاعتهم، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) فكشف لنا حقيقة ما يريدون، حتى لا يقول قائل: هم لا يحاربون الإسلام! وهم لا يريدون أن نترك الدين! فالله قد بين لنا ما يريد الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، ولفظة (المشركين) عند إطلاقها يقصد بها: عباد الأوثان وغيرهم ممن ليسوا بأهل كتاب، ويدخل فيهم أهل الكتاب الكفرة في الحقيقة، لكن يخصوا بذلك، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:١٠٠ - ١٠١].
فالكفار بأنواعهم المختلفة يريدون إبعادنا عن الدين، ويريدون ردة المسلمين، ويريدون أن يردونا على أعقابنا، فماذا بعد أن بين الله نيتهم؟ وماذا بعد أن كشف الله خبايا ضمائرهم؟ فهل نقول بعد ذلك هم لا يريدون ذلك؟ وهم لا يحاربون الإسلام؟ فمن قال: إن الكفرة لا يريدون منا عدم الالتزام بالدين، وإنما يريدون تعليمنا الحضارة والديمقراطية، وتعليمنا ما ينبغي أن نتعلمه من التقدم، فهو يخدعنا من يقول ذلك، وهم والله لا يريدون إلا حرب الإسلام، وهذه قضية مكشوفة في القرآن، وبينها تمام البيان، فهم لا يريدون بنا خيراً قطعاً، ومن ظن غير ذلك فهو واهم أو مخدوع، أو هو في الحقيقة مخادع وهو لا يظن غير ذلك، بل يعلم، ولكن يشارك في الجريمة ونعوذ بالله.
فالقضية قضية واضحة، كما بينها الله جل وعلا في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ))، النتيجة: ((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) أي: من انقلب على عقبيه، أو من ارتد عن الدين ولو كان بالنفاق، فليس لازم أن يقول: إنه شخصياً ترك الإسلام، ولا أنه لا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهم الآن ليس من مصلحتهم أن يتنكر الناس لهاتين الكلمتين؛ لأنه سوف يفقد رصيده في عامة المسلمين، وهم لا يريدون ذلك، والأمور ستهيج، إلا أن يكون المتسلط من جلدتنا ويتكلم بلساننا، فهذا هو الذي يحقق المكاسب الكبيرة لأعداء الله، ولذا نجد ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية -كما سنذكره- يقول: ينهى الله عز وجل المؤمنين عن طاعة الكفار والمنافقين.
ويقول أيضاً: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين، ولفظة (المنافقين) ليست موجودة في الآية، لكنها دخلت تحت قوله: ((إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا)) فلذلك ذكر ابن كثير رحمه الله ذلك ليس سبق قلم منه، والله تعالى أعلى وأعلم.
يقول: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:١٤٩ - ١٥٠].
مشكلة صعبة تواجه أهل الإيمان ييسرها الله عز وجل، ويبين علاجها؛ ذلك أنه إن لم نطع الكفار ماذا نصنع والأمور بأيديهم؟ والموازين موازين القوة المادية، وهي في صالحهم، فأكثر الناس يقول: لابد أن نسير في ركبهم، لابد أن نقبل هذا الواقع، ونردد ما يقولون وننفذ ما يريدون -ونعوذ بالله من ذلك- وحتى لو كانت حرباً على الإسلام، وصرف الناس عن دين الله عز وجل، وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العافية.
وهذا ليس في زماننا فقط، بل عبر التاريخ تجد عقب الهزائم دائماً يقع ذلك والعياذ بالله، طوائف تنقلب خاسرة، فتردد هذه الكلمات الخبيثة: أننا لابد أن نطيع الكافرين، فعلى المؤمنين في هذه الحالة -وليس بأيديهم شيء- أن يتوكلوا على الله، ((بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أي: أن الله ناصركم، فالله هو الذي يتولى أمركم بالإصلاح، فتوكلوا على الله في دفع أذاهم، وفي دفع مكرهم.
قال تعالى: ((وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)) أي: خير من ينصر عباده المؤمنين، وليس لكم نصير من الأرض، لكن لكم خير الناصرين وهو الله عز وجل.