للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغلول والخيانة وأثرهما في دمار الأمم]

قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:١٦١].

وهذا المعنى له ارتباط بما قبله، فيما يتعلق بصفات الإمام والقائد، فبعد أن بين سبحانه وتعالى صفات النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة واللين، وعدم الفظاظة والغلظة، وأمره بالعفو والاستغفار والمشاورة في الأمر والتوكل على الله عز وجل عند العزم، والاجتهاد في نصرة الدين، والتوكل على الله في هذه النصرة بين أنه يستحيل على أي نبي من الأنبياء أن تقع منه الخيانة والغلول، وهذا دليل على أن هذه الصفة -صفة الخيانة والغلول- صفة مدمرة ومهلكة للطائفة التي يكون قائدها كذلك، فإذا كان قائد طائفة من الطوائف أو أمة من الأمم بهذه الصفة فهذا أمر لا يمكن أن يكون معه بقاؤها، ولذا استحال وجود هذه الصفة في أي نبي من الأنبياء؛ لأن الله أهلهم للمقامات العالية، وأهلهم لقيادة الأمم، فيستحيل أن توجد فيهم الصفات المنكرة المذمومة التي تسبب دمار الأمم وهلاكها وضياعها، فإن ذلك من أعظم أسباب خراب الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.

فقيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) فخراب الدنيا وانتهاؤها بالكلية ودمار الكرة الأرضية بما فيها، وزوال ما عليها من وجود بشري مرتبط بتضييع الأمانة، ولذا يستحيل أن توجد هذه الصفة الخبيثة في نبي من الأنبياء، أو أن تتصور في نبي من الأنبياء.

ولقد كان هذا الخبر علاجاً لما تكلم به البعض ممن كان يجهل هذا الأمر كما ذكر ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:١٦١] قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون.

وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأنزل الله: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) أي: يخون.

وروى ابن جرير عن مقسم قال: حدثني ابن عباس أن هذه الآية - ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) - نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأكثروا في ذلك فأنزل الله: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

وكذا رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم مرسلاً، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: (اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد فأنزل الله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ))).

وقد روي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم، وهذه تبرئة له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.

وهذه قضية عظيمة الأهمية، حيث تصور بعض الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها لنفسه، وهذا التصور -كما دلت عليه الروايات الأخرى- إنما صدر ممن يسيء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، وهذا مناف لما عليه أهل الإيمان ولعقيدتهم في النبوة، وهو أنه لا يجوز على النبي ذلك، وهذا الأمر ربما يكون قد وقع فيه البعض بناء على عادتهم في الجاهلية التي كانوا فيها قبل ذلك، وهو أن الرئيس والكبير دائماً قد يأخذ لنفسه شيئاً خفية من الغنائم أو من الأموال العامة التي تحت يده، وهذا أمر تجده في أهل الدنيا كأنه قاعدة مستقرة وكأنه حق مكتسب إلا من رحم الله، وإن كانوا دائماً لا يظهرون ذلك، ولكن هذا الأمر لا يجوز أن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً، وكذلك لا يظن بأي نبي من الأنبياء؛ لأن الأنبياء معصومون من الخيانة، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن هذا الأمر ينافي مقام التبليغ بالكلية، وينافي مقام قيادة الأمة كما ذكرنا، بل كان لا يجوز لكل من اتصف بالخيانة أن يولى أمور المسلمين، سواء الإمامة الكبرى -الخلافة- أو ما دون ذلك من الولايات، فإن تولية الخائنين الذين لا يصلح الله كيدهم من أسباب فساد العالم -نسأل الله العافية- ومن أسباب فساد الأرض، وانتشار المنكرات، وأسباب ضعف الأمم وهزيمتها وخذلانها، فكل أمة تنتشر فيها الخيانة -خاصة من يتولى الولايات ويؤتمن على الأمانات- فإنها أمة مخذولة بلا شك، ولابد من أن يقع فيها الفساد وأن يسلط عليها عدوها، ولابد من ألا يتحقق لها أمر ولا نصر ولا تمكين في الأرض، نسأل الله العافية.

وإذا كان هذا الأمر لو حدث من قائد في قطيفة سبباً لخذلان الأمة فما الظن بما هو أكثر من ذلك؟!