[ظن المنافقين بالله عز وجل يوم أحد]
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد: فيقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:١٥٤ - ١٦٠].
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أنواعاً من ظن الجاهلية، ومن عقائد الكفار وأهل البدع والضلال في تفسيره لقوله عز وجل: ((يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)).
ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم: ((هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ))، وقولهم: ((لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا))، فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر، فهم لا يقصدون أن يثبتوا أن الأمر لله، وإلا لما حسن الجواب عليهم بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، وإنما يعنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستمع لنصيحتهم ولم يستمع لكلامهم، وأنه لأجل عدم أخذه لرأيهم حدثت الهزيمة.
وقد ذكرنا من قبل أن كثيراً من الناس عند المصائب والهزائم والمحن يكثر من البحث عن الأخطاء الظاهرة، سواء كانت أخطاء عسكرية، أو أخطاء في القرارات، أو أخطاء في طريقة العمل، وينسى أن هذه الأمور في النهاية هي أمور اجتهادية، وليست هي التي ذكر الله عز وجل في سبب الهزيمة، وأن الأمر ليس أنه كان الأصوب عدم الخروج إلى جيش المشركين خارج المدينة، وكان الخطأ هو خروج المسلمين، فالمسلمين انتصروا بفضل الله في أول المعركة وقد خرجوا، فليس الخطأ العسكري في عدم البقاء في المدينة هو السبب في الهزيمة، فهذا لم يذكره الله قط، ولكن هؤلاء لا يعرفون إلا الأمور الظاهرة، لذلك قالوا: ((هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ))، يعنون أن الرسول لم يسمع كلامهم، فهم لم يقصدوا إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله.
قال ابن القيم: [فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليه بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية] إذ نص هذا الكلام، ((الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، اعتقاد الحق، وليس يمكن أن يكون اعتقاد الحق هو مصدر ظن الجاهلية، وإنما ظن الجاهلية مصدره عقيدة الجاهلية وسوء الظن بالله، وعدم الإيمان الصحيح.
يقول ابن القيم: [ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم، وكان رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعاً لهم، فيسمعون منهم لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية] ولو كان كذا لكان كذا وكذا، فلو لم نخرج لانتصرنا، ولو لم نخرج لما قتل منا من قتل، فهذا الكلام الباطل الذي يقع فيه كثير من الناس، وينسون أن سبب المصائب والمحن والهزيمة والانكسار هو المعصية والمخالفة لشرع الله، وحتى ولو كان الأمر محتملاً أن يكون خطأ عسكرياً فالله عز وجل يجعل من الأسباب الضعيفة أقوى الأسباب، ويجعل من الخطأ الذي هو أمر اجتهادي -طالما أنه دون معاصي ودون ذنوب- ذلك الخير الكثير.
فالعبرة أن نأخذ بالأسباب ولكن لا نقف عندها، بل نتعمق لنفهم أن هناك ما هو أشد تأثيراً من هذه الأسباب، وهو أعمال القلوب وما يكون عليه حال الجيش في الطاعة والمعصية، وحال الطائفة خصوصاً وحال الأمة عموماً.
فلابد أن نعرف أن هذه من أكبر الأسباب، وليس فقط أن السبب مثلاً أن الأسلحة كانت قديمة، أو أن التخطيط العسكري كان خطأ، أو نحو ذلك مما تبرر به الهزائم دائماً، فأعمال القلوب هي السبب في الهزيمة أو الانتصار، وأنت لو تأملت ما يقع في المعارك ستجد أن قضية التفاوت في القوة المادية ليس هو العامل الرئيسي في الهزيمة أو الانتصار وإنما تجد على أرض المعارك أمراً يختلف تماماً عن الموازين المادية المحضة، فتجد أن أعتى القوى والجيوش ربما قد تعجز أمام أفراد معدودة ومحدودة، وعندما تبدأ أعمال القلوب الفاسدة من الغش، والتعلق بالدنيا، وبيع القضايا، وبيع الأديان والأوطان والشعوب بالمال وبالشهوات، هنا يدخل العبث.
فمرد الأمر في الهزائم إلى أعمال القلوب، فكم من هزيمة وقعت، وأرض احتلت، كان سببها أعمال قلوب طائفة من الأمة، أو جيل من الأمة وقعوا في المعاصي والمنكرات، مما أدى ذلك إلى حصول البلاء ونزوله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلذلك قولهم ((لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) أي: لو كان الرسول وأصحابه تبعاً لهم يسمعون منهم لما أصابهم شيء قط، وهذه القضية هي قضية أهل النفاق الأكبر والأصغر.
يقول ابن القيم: فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر، الذي لم يكن بد من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء، فأكذبهم الله بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فهذا أمر عظيم الأهمية في المحن والشدائد، وهو شهود القدر، وهذا هو الذي يدفع القلوب إلى تجاوز المحنة وإلى زيادة الإيمان، رغم شهود التقصير، وليس التقصير هو عدم اتخاذ القرار الصحيح عسكرياً مثلاً، بل التقصير كان في مخالفة الأمر: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:١٥٢].
إن هذا شهود التقصير مع شهود القدر، وأما شهود التقصير مجرداً عن شهود القدر فإنه يدفع إلى اليأس، وإلى قتل النفس، وإلى قتل المعاني الحميدة التي في النفس، فليس المقصود من لوم النفس وعتابها والسعي في تهذيبها وإصلاحها أن يظل الإنسان يبكتها ويذمها حتى يصل إلى تيئيسها من رحمة الله عز وجل، بل لابد أن يرى الجوانب الإيجابية ويستثمرها، والجوانب السلبية ويعالجها، وليس مذهب الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان وأئمة السلف جلد النفس، أي: أن يرى الإنسان نفسه دائماً بأحط المنازل، وأنه الهالك الوحيد، كمن قال مثلاً: إنه ما حاسب نفسه إلا وجد نفسه مرائياً، إلا أن يكون كذلك، لكن أن يرى نفسه على الدوام لم يعمل عملاً صالحاً قط! فليس هذا هو الذي أمر الله عز وجل به، أو يرى أنه لم يخلص لله طرفة عين، فهذا لم يأمر الله به، إلا إذا كان كذلك فنعم، فمثل هذا الإنسان فاسد من الداخل، وهذا يذكر في كثير من كتب التهذيب على أنه مثال لما ينبغي أن يكون عليه الصالحون، وليس كذلك.
فالله عز وجل وصف المؤمنين بأن قلوبهم وجلة، وأنهم يخافون ألا يكونوا أخلصوا لله، لكن لا ينبغي أن يظن بنفسه دائماً بأنه في أحط المنازل، وأنه أسوأ الموجودين، وأنه هو الهالك الوحيد، فليس هذا هو الأمر المطلوب، كما أنه لا يزكي نفسه أيضاً، ولكن يرجو القبول، ويخشى عدم القبول، ويرى الجوانب الإيجابية -وهي فضل من الله ونعمة- فيزيد منها ويستثمرها، والجوانب السلبية فيعالجها، ويشهد القدر في كل ذلك.
يقول: [فأكذبهم الله بقوله: ((قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ))، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولابد شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن شاءه الناس أم لا، وما جرى عليهم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن لكم، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولابد، سواء كان لهم من الأمر شيء أو لم يكن، وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة، الذين ينفون القدر، والذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يقع] فالقدرية جعلوا الأمر الشرعي والكوني