للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع العلم]

العلم المطلوب في الدعوة نوعان: علم بخطاب الشرع وعلم بالواقع: والعلم المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل نوعان: علم بخطاب الشارع، والعلم بالواقع الذي يعيشه الإنسان؛ ليطبق هذا الخطاب على الواقع.

فمثلاً: لابد أن يعلم أن الشرع قد حرم الخمر، ثم بعد ذلك لابد أن يعلم أن الذي في هذا الإناء خمر، حتى يمكنه إراقته، ليغير المنكر ويدعو إلى الله عز وجل أو ينكر على من يشربه، وأما إذا لم يعلم الواقع سيترتب عليه إما أن يضيع واجباً أو أن يأتي محرماً، فربما كان هذا الإناء على سبيل المثال فيه شراب محترم، أي: شراب نافع، فهو مال لأخيه المسلم فقد يريقه بدون معرفة.

ولذلك نقول: إنه لابد من الأمرين معاً، العلم بخطاب الشرع، والعلم بالواقع، وكم من أمور مبناها على معرفة الواقع، ولكن هذا لا يعني أن نغالي في ذلك كما قد يغالي فيه البعض، فيجعل همة الناس في معرفة ما يجري من أخبار وما قاله الساسة، ومعرفة التفاصيل التي يخرف بها المفكرون والمتكلمون والصحفيون وغير ذلك.

إنما المطلوب من علم الواقع هو ما يدرك به الحكم الشرعي على هذا الواقع: أما التفاصيل الكثيرة فهي أكثر من أن تحصى، وعمر الإنسان لا يتسع لذلك، فلا يطلب منك أن تكون على بينة بكل كلمة يقولها الأعداء، أو كل شبهة وضلالة تطلق في الدنيا، وإنما تعرف من ذلك ما يضر وما يحتاج منك إلى أمر وموقف وبيان ونحو ذلك، وتعرف حقيقة من توالي ومن تعادي، فلابد أن تعرف هذه الأمور جيداً من خلال العلم بالواقع، أما أن يكون الإنسان تاركاً للعلم الشرعي الذي يلزمه، وفي نفس الوقت يكون منشغلاً بنشرات الأخبار ليل نهار، يسمع عشر نشرات في نصف اليوم ربما، ويقرأ عشرات الجرائد مع أن جريدة واحدة مختصرة أو ربما بعض أخبارها تكفيه، فهذا خلل يحدث عند الكثيرين، وبالتالي تجده يحسن أن يخبر عما جرى وعما وقع، ولا يحسن أن يخبر عن حكم الشرع في ذلك؛ لأنه أهمل الجانب الأهم، وهو العلم بالشرع.

ولا شك أن العلم بالشرع مطلوب لذاته، والعلم بالواقع مطلوب لغيره، فأنت لا تثاب على معرفة تفاصيل ما يجري إلا أن يكون لذلك تعلق بالعمل الشرعي والعلم الشرعي، بينما لو تعلمت الشرع فأنت تثاب على ذلك حتى ولو لم تكن من أهل تطبيقه، فلو أن إنساناً ما قسم ميراثاً في حياته، ولكنه تعلم فقه المواريث لكان مثاباً على ذلك؛ لأن هذا من العلم بما شرع الله، وهو مقتضى العلم بكلامه عز وجل وبما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم أي التصديق به، وهذا يثاب عليه.

وأما تصديقك أنه قد حدث في البلد الفلاني كذا وأنه وقع في الحادثة الفلانية بالكيفية الفلانية، فهذا لا تثاب عليه ولا تذم على تكذيبه أو الشك فيه، إلا أن يترتب على ذلك حق لعباد الله، أو يترتب عليه موقف للدين لابد أن تتخذه، فهنا ينبغي عليك أن تتحرى حتى تؤدي ما عليك، وإلا فالجهل بالحال بالتأكيد يؤدي إلى ترك الواجب في كثير من الأحيان، فلو أن الناس مثلاً جهلوا حقيقة أعدائهم من اليهود أو النصارى أو المشركين وقالوا: إن هؤلاء ليسوا بكفار أو ليسوا بأعداء، ترتب على ذلك الاستسلام والخضوع لهم، وترتب على ذلك أحياناً ترك معاونة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، وترك ما لزم الإنسان من البذل والدعاء والتضحية وغير ذلك، بل ربما وصل الأمر إلى أكبر من ذلك، فقد يستجيب الإنسان لدعاة على أبواب جهنم لجهله بحالهم، وربما جروه إلى النار وهو لا يشعر، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشر بعد الخير الذي فيه دخن، فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال: قلت يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس).

ولذلك نقول: إن كثيراً من الناس عندما لا يعلم الواقع ويظن أن العلم به أمر لا فائدة منه، فإنه يترتب على ذلك أن يمدح أهل الزندقة والنفاق، وأن يسوغ للناس طاعتهم ومتابعتهم والاستجابة لهم، ويذم أهل الإيمان والتقوى بما يروج عنهم من أباطيل، وبما يذكر عنهم من أكاذيب، فيترتب على ذلك خلط للأمور.

لكن نقول: لابد من تحقيق التوازن بين الشقين المطلوبين للداعي إلى الله عز وجل، أي: لابد من تحقيق التوازن بين العلم بالشرع وهو كما ذكرنا المقصود لذاته والمقصود الأصلي، وهذا بأن تتعلم كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وشروح ذلك من كلام أهل العلم، والعلم بالواقع، وهو واقع الحال؛ حتى تستطيع أن تطبق الشرع على الواقع الذي تعيشه، ولا يختلط عليك الأمر فيما تواجهه من مشكلات، فهذا أمر ضروري لا شك فيه.

- لا يشترط في الداعية إلى الله أن يكون في منزلة المجتهدين: وبناء على ذلك هل نقول: لا يجوز لغير العلماء أن يدعوا إلى الله سبحانه وتعالى؟ هذا قد يفهمه بعضهم فهماً غير سليم؛ وذلك لظنهم أن العلم المشترط في الدعوة إلى الله هو أن يحصل الإنسان مراتب المجتهدين، وهذا أمر غير صحيح؛ لأن الأمور تنقسم إلى قسمين: قسم معلوم من الدين بالضرورة، وهو ما اشترك في العلم به العالم والجاهل والخاص والعام، فهذا كل المسلمين علماء به، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحرمة الزنا، وشرب الخمر، وحرمة الربا والميسر ونحو ذلك مما لا يتنازع المسلمون فيه إجمالاً، فكل المسلمين علماء بذلك.

ولذلك وجب على كل المسلمين أن يأمروا وينهوا في هذا الباب، وأن يدعوا إلى الله عز وجل، وهذا مما يستهين به الكثيرون، وقد يظن بعضهم أن هذا ليس في دائرة الدعوة، مع أن جزءاً كبيراً من هذا العلم هو في دائرة الدعوة الأهم، فكم من الناس يترك الصلوات الواجبة! ويترك الصوم الواجب، فيفطر في رمضان علناً! وكم من الناس يفعل الفواحش! فهل يعقل أن أحداً من المسلمين يجهل مثلاً أن تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية محرم؟! والله هذا مما لا يجهله أحد، فالبلاء الذي وجد في الأمة من انتشار الفواحش وتكشف النساء حتى قد شوهد في بعض بلاد المسلمين من يقبل النساء في الشوارع، نسأل الله العافية والسلامة، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تكاد تصدق، فهل هذا كله يحدث بسبب الجهل بأحكام هذه الأمور؟ لا والله! فكل الناس يعرفون أن هذه الأمور محرمة بلا شك، ولكن كل واحد منهم يؤثر السلامة، فليس عنده عزيمة على التغيير ولو بكلمة واحدة، فإن كل واحد منا لو قال هذه الكلمة لكان لذلك أثر عظيم وكبير، فلو أن كل متبرجة سمعت وهي تمشي أن الحجاب فرض، أو سمعت: اتقي الله، حرام، فإنها ستتغير في يوم من الأيام، لكنها ربما قد تسمع كلمات الإعجاب أضعاف كلمات الإنكار والعياذ بالله، فهذا الأمر ليس مرده إلى الجهل، وإنما مرده إلى تقاعس الناس وتعودهم على عدم الإنكار؛ وذلك راجع إلى أسباب كثيرة أهمها: التعود المفرط على متابعة القنوات الفضائية وما تبثه من سموم فتاكة، من تعليم للقتل والسرقة والفاحشة، فيعتاد الناس ذلك وتنتشر هذه الأمور في المجتمع، هذا أحدهم ينقل لي إحصائية يقول فيها: في الفترة الصباحية: عدد المشاهدين للتلفزيون خمسة وثلاثون مليون شخص، وا مصيبتاه! خمسة وثلاثون مليون شخص يشاهد التلفزيون في الصباح! فكم سيكون العدد بعد العودة من العمل؟! وهذا العدد غير مستغرب، فإننا لو سألنا: هل يوجد بيت في هذه الأيام ليس فيه تلفزيون؟! بل إنه قد انتقل من البيوت إلى المحلات، وفوق ذلك أصبح في السيارات، إذاً: فالأرقام هذه غير مستغربة، بل هي من الحقيقة بمكان.

فالأمر كما قلنا: لا يعني انتشار هذه المعاصي أن الناس يجهلون حكمها، بل كل واحد منهم يعلم حكمها الشرعي، ولذلك يجب عليه أن يدعوا إلى الله وأن يأمر وينهي في هذه الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، وليس الأمر متروكاً للعلماء فقط في مثل هذه المسائل.