[التوكل في حياة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم]
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) [آل عمران:١٢٢]، فأعظم سلاح يستعمله أهل الإيمان أنهم يتوكلون على الله عز وجل، فهذا هو الواجب الذي لا ينفك عنه وقت، ويتأكد عندما تشتد الأمور، ويتأكد عندما تزداد المحن، كما قال سبحانه وتعالى في شأن موسى وفرعون: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:١٢٧ - ١٢٨]، فالاستعانة بالله سبحانه وتعالى أعظم ما يواجه به أهل الإيمان من المحن ومن الكربات.
قال تعالى: ((وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) وقدم الجار والمجرور ((وَعَلَى اللَّهِ)) للاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده، كما قدم المفعول في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] للاختصاص والاهتمام، أي: نعبد الله وحده ونستعين به وحده، ولأننا نهتم بهذا الأمر أعظم اهتمام، وكما قال مؤمن آل فرعون عندما دعا قومه صراحة إلى الله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٥ - ٤٦]، والتوكل على الله عز وجل درجات، فمنه التوكل على الله في أمر الرزق، وهذا توكل الطيور والبهائم والكائنات، ولو توكل بنو آدم على الله عز وجل حق توكله لرزقهم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، وهذا توكل ربما يكون من الكفرة والعصاة والفسقة، وتوكل المؤمنين أعظم، فهم يتوكلون على الله عز وجل في طاعته، ويتوكلون على الله في توفيقه لهم، وأن يعينهم على مرضاته، وأن يبعدهم عن معصيته، ويوقنون بأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله، ويتوكلون عليه في أن يصلوا بسلام إلى دار السلام، ويتوكلون على الله عز وجل في أن ييسر لهم دخول الجنة، وتوكل الرسل عليهم الصلاة والسلام وخاصة أتباعهم على الله عز وجل في نصرة الدين، وهداية الأمم، واستخراج من يعبده لا يشرك به شيئاً من بين ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، والله عز وجل جعل هذا أعلى التوكل، وهو التوكل على الله لأجل نشر عبادته في الأرض كلها، وليس أن تتوكل على الله في خاصة نفسك فحسب لكي تعبد الله سبحانه وتعالى في نفسك، بل تتوكل على الله عز وجل لكي يُعبدَ الله سبحانه وتعالى في الأرض، فالله عز وجل ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، والله عز وجل هو الذي نتوكل عليه في ذلك لتبقى دعوة الحق قائمة.
قال تعالى: ((وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا))، فكيف لا نتوكل عليه وقد جربنا طريق الهداية؟! فقد هدانا الله عز وجل إلى توحيده ومعرفته ومحبته، فكيف بعد ذلك لا نتوكل عليه؟! وكيف لا نتوكل عليه وقد علمنا فائدة التوكل وثمرته، وحتى ولو انغلقت الأسباب كلها؟! بل الحقيقة هي أن التوكل أكمل وأتم ما يكون عندما تنعدم الأسباب.
وتأمل توكل موسى صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله عز وجل إلى ما أراد عندما تراءى الجمعان، وقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] فهو توكل عظيم حيث لا أسباب، والعدو قد حضر، وأكد أصحاب موسى أنهم مدركون، فقال: (كلا) يقيناً بالله، وتوكلاً عليه سبحانه، وثقة به عز وجل {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:٦٢ - ٦٣].
وأعلى منه توكل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يلقى في النار ويقول: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، فـ (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، وفي أثر إسرائيلي: أن جبريل لقي إبراهيم في الهواء، وهو في الطريق إلى النار، فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
ولذا كان الجزاء من عنده عز وجل، وليس بسبب مخلوق من المخلوقات، ولا بسبب ريح هبت فأطفأت النار، ولا ملك أخذ إبراهيم فأنقذه، أو ماء نزل من السماء فأطفأ النار، بل بأمر منه عز وجل، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩]، فالله عز وجل بكلامه أنقذ إبراهيم.
وأعظم منه توكل النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال له صاحبه وهو في الغار: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال له: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)، وقال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] فهذا توكل عظيم.
فالتوكل على الله عز وجل عندما تنعدم الأسباب من الناس ومن النفوس، وحين تكون نفوسنا عاجزة ضعيفة لا أسباب فيها، كما قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠]، فاليأس كان من الناس ومن الأسباب، ولا ييأس المؤمن من رحمة الله أبداً، بل يبقى التعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، فإذا حصل هذا التوكل العظيم جاء الفرج بإذن الله تبارك وتعالى.