قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[آل عمران:٢٣]، فهؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، فما تمسكوا بكتبهم التي أنزلها الله عليهم، بل ما رعوها حق رعايتها ولا حفظوها حق حفظها، فاستحفظهم الله كتابه فضيعوه، ولذلك ما أوتوا الكتاب كاملاً، وإنما أوتوا نصيباً منه، والله عز وجل أعلى وأعلم.
والمعنى: أن آباءهم وأجدادهم قد أوتوا الكتاب، ولكن هؤلاء قد ضيعوه، حتى إن ما بقي بأيديهم من الحق ما التزموا به، وما قبلوه أو طبقوه، فأخبرونا -عباد الله- عن حقيقة هؤلاء القوم في سلوكهم، هل يمتثلون توراة أو إنجيلاً؟ وهل يمتثلون توحيد الله عز وجل الذي أنزله في كتبه كلها؟! فكل كتب الله السابقة -حتى بعدما وقع فيها تضييع وتحريف وتبديل- لا يزال يوجد فيها دعوة التوحيد والحق وتصديق الأنبياء، فالرب رب واحد، هو رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهذه أول الوصايا في التوراة، وأولها على لسان المسيح عليه الصلاة والسلام، فهي أول الوصايا في التوراة والإنجيل الموجودين الآن، ومع ذلك هل يطبق (لا إله إلا الله) ويدعو إليها في الأرض أحد غير أهل الإسلام؟! ثم تجد اليوم عداوة عجيبة لهذه الكلمة ولأهلها ومحاولة لإذلالهم، فهم لا يمتثلون كتاب الله، ويُدَعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيأبو ذلك، لا إلى الكتب التي بين أيديهم رغم ما فيها من تبديل وتضييع ولا إلى كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووافقهم في ذلك المنافقون، وتابعوهم على رفض التحاكم إلى كتاب الله، قال تعالى عنهم:{يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ}[آل عمران:٢٣] أي: يتولون عن الإيمان، وعن الكتاب، ويتولون عن الانكسار والانقياد لأمر الله كما قال الله:{وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أعرضوا عن آيات الله عز وجل بعد إذ أنزلت وبعد إذ بينت.
فهذه سبيلهم وطريقتهم وطريقة أوليائهم، طريقة تتكرر عبر العصور، وذلك أنهم متابعون لإبليس اللعين في إيذائه واستكباره والعياذ بالله، وهذا أبلغ الذم لهم على ما صنعوا، وذلك لفساد اعتقادهم، وعدم إيمانهم باليوم الآخر إيماناً صحيحاً، وإن أقروا بوجود البعث فإبليس يقر به، وإن أقروا بوجود النار فإن إبليس يقر ويعترف بذلك، فلن ينفعهم ذلك.