العبودية وكون الإنسان عبداً لله عز وجل ليست فقط مجرد تكليف بأمور شاقة تجد فيها مشقة، بل الحقيقة أنها للإنسان كالهواء الذي يتنفسه ويستريح به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أرحنا بها يا بلال)؛ لأنه يستريح في أثناء العبادة، قال صلى الله عليه وسلم:(حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرت عيني في الصلاة)، ولا شك أن من جرب لحظات من العبودية الحقيقة الكاملة لله؛ لأيقن وحلف بالله العظيم صادقاً من غير حنث ولا خداع للناس أن أعظم لذة في هذه الدنيا قبل الآخرة هي لذة عبادة الله عز وجل، والقرب منه، والتقرب إليه، والشعور بالانكسار والذل والحب له عز وجل، وأعظم ما يجده الإنسان من لذة هي لذة الشوق إلى لقاء الله، كما كان النبي صلى الله عليه يقول:(وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك).
فالعبودية فعلاً لذة عظيمة، قال عنها بعض الصالحين: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول بعضهم: يأتي على القلب أوقات أقول فيها: لو كان أهل الجنة فيما نحن فيه، لكانوا في عيش طيب، مع أنه لا وجه للمقارنة بين قرب أهل الجنة من ربهم وبين قرب العباد في هذه الدنيا، وإنما أعطاهم الله ما يعرفون به حقيقة النعيم في الجنة، كما أن الله أعطانا من الطعام ما ندرك به أن هناك في الجنة أنواعاً من اللذات من الطعام والشراب لا تخطر على قلب بشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وما أخبرنا به إنما هو أسماء، وحقيقة اللذة أعظم، فأعظم من نعيم العباد في الدنيا نعيم قربهم من الله عز وجل في الآخرة، وكيف لا وهم ينظرون إلى الله عز وجل، فيذوقون لذة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:٢٢ - ٢٣]، فالنظرة التي تجري فيها من النظر إلى وجه الله لا توصف، وهم إنما خلقوا للبقاء، ويأتيهم من نظرهم إلى وجه الله عز وجل ما لا يمكن أن يدركه إنسان، فتنحني المخلوقات تعظيماً لله عز وجل في هذه الدنيا، قال تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}[الأعراف:١٤٣] أي: انحنى الجبل تعظيماً لله عز وجل، قال:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}[الأعراف:١٤٣]، فكيف بهم حين يبقيهم الله ليدركوا شيئاً من عظمته، وهم باقون مع ذلك لا يفنون؟ وهذا البقاء الذي هو أعظم من الفناء هو أعظم نعيم عجزت عن إدراكه العقول، فأعطاهم الله ذرةً منه في الدنيا؛ ليقول قائلهم: لو كان أهل الجنة فيما نحن فيه لهم في عيش طيب، وما أفظع أن يحرم الإنسان من ذلك، وما أبشع أن يبعد الإنسان عن ذلك بالخمر المسكرة والمخدرات، لست فقط أعني الخمر التي يشربها الناس والمخدرات التي يشربونها، بل أعني: كل الشهوات، فإنها تعمي القلب، وتجعله تعيساً تعاسة فظيعة لا يدرك لهذه الدنيا طعماً، ولا يدرك لذة العبودية لله، ولذة حبه والانكسار له، ولذة الذل والخضوع له عز وجل، ولذة الشوق إليه، ولذة الخوف منه وحده لا شريك له، فيزول من قلبه خوف كل أحد سواه، فخوفه من الله عز وجل نعيم، والخوف من غيره شقاء، والتوكل على الله عز وجل نعيم، والتوكل على غيره شقاء، وقلق واضطراب وحيرة وشك، ولا تدري هل يقضي لك مصلحتك أم لا؟ وأما إذا توكلت على الله كفاك ما أهمك، وكذلك لذة شكر نعمة الله نعيم، ونسبة الفضل للنفس وللخلق، والانكسار لهم ذل وهوان وغباء وجهل، والعياذ بالله أن يقول الإنسان:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:٧٨]، كذلك لذة التواضع لله عز وجل نعيم، والكبر شقاء للإنسان وعذاب حين يعجب بنفسه ويتفاخر ويتكبر، فإبليس عذب بحاله قبل طرده من رحمة الله؛ لأن في قلبه العجب والكبر والغرور والعياذ بالله، فتجد فعلاً كل هذه اللذات الدنيوية المسكرة المحرمة من مخدرات وغيرها تؤدي إلى تنويم للإنسان حتى يصاب فيها بفشل تنفسي؛ لأنها تجعل مركز المخ لا يحس بأنه يريد أكسجين، فيتوقف الإنسان عن التنفس فيموت؛ ولذا فإن أصحاب المخدرات والخمر يريدون العيش على هذه الحال؛ حتى يحسوا بأن خيالاتهم حقيقة، فيخلطوا ما بين الحقيقة والخيال.
فالذي يتعاطى المخدرات يتخيل نفسه أنه أعظم رجل في الدنيا، قال تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر:٧٢] أي: في سكر أصلاً أشد من سكر الخمر والعياذ بالله.
كذلك الذي أهدر حياته كلها أمام التلفاز والفيديو، فتارة ينظر إلى ممثلة، وتارة يسمع المغنية هذه، ولا يعرف إلا لعب الكرة فقط، ولا يعرف في الدنيا إلا اللذات، فيخرج من الدنيا مفلساً لم يعرف منها إلا هذا، ونسأل الله العفو والعافية.
إنها لمصيبة عظيمة أن يعيش الإنسان حياته بهذه الطريقة والعياذ بالله، فالإنسان إذا تعود على شهوة معينة فإنه لا يستطيع أن يحيا إلا بهذه الطريقة، ومن الناس من جعل شهوته في النساء كشهوة قوم لوط في الرجال، فإن شهوة امرأة العزيز في يوسف جعلتها لا تحس بما يحدث، فقد فتحت الأبواب ودخل عليها زوجها وهي لا تحس بذلك، فقد كانت مشغولة بشد قميص يوسف عليه السلام، وزوجها كان عزيز مصر، قال عز وجل:{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}[يوسف:٢٥].
وقد كان يوسف ينفر منها، فلم تمنعها كرامتها من الإبعاد عنه وتركه؛ لأنه هو الذي يبعد عنها، فقد أصبحت الشهوة مسيطرة عليها وقد شغفها حباً، فمثل هؤلاء لم يعرفوا حباً سوى هذا الحب في الدنيا، ولم يذوقوا حب الله عز وجل ولا حقيقته.