[الحكمة من تمييز الله الخبيث من الطيب]
قال الله: ((لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))، لام التعليل هنا صريحة في بيان الحكمة الكونية من الابتلاءات، فإن الله لم يشرع أن تنفق الأموال في الصد عن سبيل الله، ولا أن تحزب الأحزاب لإطفاء نور الله، ولكن قدر الله ذلك الأمر المكروه ليدرأ عن أهل الإيمان أمراً مكروهاً أشد، وهو اختلاط الطيب بالخبيث، واختلاط المؤمنين بالمنافقين، الذي يؤدي ذلك إلى أن يتولى الإمامة في الدين من ليس أهلاً لها، وأن يتولى إقامة أمر المسلمين من لم يجعله الله عز وجل إماماً بصبره ويقينه، وإنما هو من الظالمين، فلا يحل ولا يجوز أن يكون إماماً في الدين، لما يرتب على ذلك من الفتن التي لا يعلمها إلا الله.
وإذا كانت طائفة ضعيفة قليلة من المنافقين في جيش عظيم البركة والخير لا تزيده إلا خبالاً، فما الظن إذا صار المنافقون هم الذين يتكلمون في كل الأمور، وصاروا هم الأئمة والعلماء والقادة والمقاتلين وغير ذلك؟ ماذا يظن من الفساد العريض الذي يحصل للمسلمين إذا لم يتميز الخبيث من الطيب؟! وقد قدر الله أسباب التمييز لكن لم يستفد منها المسلمون، بسبب كثير من الجهل والغفلة عما سن الله عز وجل لعباده.
والله عز وجل قد بين حكمة تقديره وإقداره الكفرة على أن ينفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وبين أنه يتراخى ظهور تحسرهم وأمر هزيمتهم، وأنهم يغلبون، فقال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:٣٧]، يتراكم الباطل بعضه فوق بعض ويجتمع؛ لأنه يجذب بعضه بعضاً، رغم أنه يتضح جلياً أنه باطل.
ولو تأملت سنة الله في خلقه فستجد أنه كلما كانت أدلة ظهور الباطل قوية جداً كانت قوة الباطل المؤقتة أيضاً قوية جداً، فمثلاً لو تأملت في قصة الدجال تكون فتنته عظيمة تعم الأرض كلها إلا مكة والمدينة، ويكون له جنود وأتباع خصوصاً من اليهود في أجزاء مختلفة، ومعه ما يظنه الناس جنة وناراً، ويأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، ومن يؤمن به تروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرىً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ومن لم يؤمن به يصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء مما كان في أيديهم، وكنوز الأرض تتبعه، فهذه فتنة عظيمة مع ظهور عجز الدجال وبطلان أمره؛ لأنه أعور مكتوب بين عينيه كافر.
فمهما كانت قوى الباطل فسيظهر بطلانها بما لا يخفى على أحد، ومن يتبعه يتبعه وهو يعلم أنه باطل، وأنه كفر ونفاق وشرك، ومع ذلك يتبعه الكثيرون؛ لأجل الفتنة، ويطول الأمر عند الناس، ودائماً لحظات التعب والمحنة تكون طويلة، يراها الإنسان كدهر، ويريد أن تنتهي، ولكنها سوف تمر قطعاً.
إذاً: قدر الله عز وجل المحن ليميز الخبيث من الطيب ويطلع العباد على الغيب الذي لا يطلع عليه إلا من شاء أن يطلعه من رسله.
وأنت تلاحظ في هذه الآيات جملاً من الفوائد وأنواعاً من العلوم، كما ذكرنا في بيان سنة الله سبحانه وتعالى في أمر البلاء حتى يظهر الحق جلياً وبحجة قوية وإن كان شديد الضعف، فقوة الباطل منهارة بلا تردد، والباطل يتناقض في نفسه في اليوم الواحد كما تلحظه وتراه في واقع الحياة، تراه يتناقض فيما يعلن ويفعل ويقول، تناقضاً ظاهراً في كل شيء، فليس عنده ميزان، ولا يمتثل ديناً، أو شرعاً، أو حتى قانوناً مخترعاً باطلاً وضعه برأيه، فلا يلتزم بشيء، لا يقيم توراة ولا إنجيلاً ولا قانوناً دولياً ولا شيئاً يخالف هواه على الإطلاق، ولا يعبأ بأمر من الأمور، وهذا هو التناقض في أوضح صوره، وفي نفس الوقت معه قوة عجيبة، وهذه فتنة ومحنة من الله؛ ليحصل التميز، لأجل أن لا يشك أحد حين تتغير الأمور فتنقلب أو تعتدل الموازين -بإذن الله تبارك وتعالى- أن من تابع الباطل في هذا الوقت فهو من ركامه الذي جعله الله عز وجل ممحوقاً، ونهايته في جهنم والعياذ بالله، فلا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال أن يكون أهلاً للإمامة في الدين، وأن يكون خليطاً للمسلمين دون أن يعرف أمره، ولذلك كان من هدي أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الاستفادة من محنة الردة، حيث كانت محنة هائلة أوشكت أن تعصف بالمسلمين، حيث ارتدت العرب ورجعوا إلى عبادة الأوثان، واتبعوا مسيلمة والأسود العنسي وسجاح وأمثال هؤلاء، ومنع منهم طائفة الزكاة وغير ذلك، ولم يعد يسجد لله عز وجل في الأرض بعد التمكين ودخول الناس في دين الله أفواجاً إلا في مكة والمدينة ومسجد جواتا بالبحرين، وهم وفد قبيلة عبد القيس، وسائر الأرض أصبحت حرباً على الإسلام، فلما مكن الله عز وجل للمسلمين وانهزم المرتدون وجاءوا يعلنون رجوعهم وتوبتهم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزي، ففرض عليهم السلم المخزي فلا يحملوا سلاحاً ولا يركبوا خيلاً حتى يري الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيهم أمراً، ولم يكن لأحد منهم أبداً صدارة، أقصى ما يسمح له أن يكون في آخر الصفوف جندياً إن أراد الصدق مع الله عز وجل كما وقع ممن تاب وحسنت توبته، لكن لم تسمع عن روايته للحديث، ولا أنه صار معلماً للناس، فالذين كانوا معلمين للمسلمين في أقطار الأرض المفتوحة هم فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، مثل الخلفاء الأربعة وأبي هريرة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء، الرجال الكمل رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، الذين علموا الناس الدين، والذين تولوا قضاء المسلمين، وتولوا الجهاد في سبيل الله، مثل سعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير، وإنما تولوها بصدقهم الذي عرف منهم في فترات المحن، فلابد أن نستفيد من المحن ولا تمر بنا كما جاءت، ونخرج منها كما خرجت علينا.
إن الأمر مؤلم للمسلمين بلا شك، ولكن لها فوائد؛ ليظهر المصلح من المفسد، ليظهر ذو العمل الصالح من ذي العمل الطالح، ليظهر أهل الإيمان من أهل النفاق، ليميز الله الخبيث من الطيب كما قال سبحانه: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: من النفاق، ((حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)).