للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أوجه المحرمات والمعاصي]

إن المحرمات والمعاصي لها وجهان ننظر إليها منهما: الكفر والمكر، فوجه يضيق بالمنهي عنه؛ لأن الله حرمه، ووجه آخر ينظر إليه بأنه حكمه وقدره، وأنه كله في خوض الأمر الرباني، أما أصحاب الوجه الأول فقد أمر الله رسوله ألا يحزن عليهم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:١٢٧]، وهذه الآية عجيبة الشأن، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك يضيق صدره بالإيذاء، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٧ - ٩٩]، لكن ربنا نهاه عن هذا الضيق، وفطرة الإنسان بأنه يضيق وتأتيه الخواطر، والأنبياء بشر من البشر، فليسوا منزهين عن هذه الخواطر، مثلما حدث لسيدنا موسى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:٦٧]، ثم بعدها جاء التثبيت من الله سبحانه وتعالى، وزال ذلك الخوف، وتكلم بعد ذلك بالكلام العظيم الرائع، وهنا أخبر ربنا عز وجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضيق صدره بما يقولون حرصاً على إيمانهم، لكن ربنا عز وجل يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:١٢٧]، فمن الذي يستطيع أن يسمع إذاً تخطيطات الأعداء، وإعداداتهم، ومكرهم، ويصبح فعلاً يمتثل: ((وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ))، ويعلم أن الكفار إنما هم في لعب، كما قال سبحانه: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:٨٣]؟ فتأمل هذه اللطيفة وتخيل هذا العالم الذي لا يزال يمكر بالإسلام وأهله، ويخططون في الشرق وفي الغرب للفتك بأهل الإسلام، فقال الله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف:٨٣]، وكل هذا بسبب الاستسلام للحكم وهو: أن تشهد أن الله عز وجل أمرك أن تحب ما شرع، وتكره ما يخالف الشرع، ولكن في نفس الوقت تشهد قضاءه وقدره فترضى بتدبيره سبحانه وتعالى، وتعلم أن ما يقدره على بعض العباد من المخالفة للشرع فإنه يجعل من ورائه خيراً كثيراً، فترضى عن الله عز وجل في كل ما فعل، حتى خلقه للشر وليس بشر، فالخير كله في يديه، والشر ليس إليه، فليس الشر من صفته، ولا من فعله، نعم خلق الله الشر ولكنه قدر من وراء وجود الشر من أنواع الخير ما لم يكن محتملاً وجوده إلا بوجود هذا الشر، فلأجل ذلك قدر الله هذا الأمر المكروه له عز وجل، والمكروه لعباد الله المؤمنين، ولكنه يعطيهم من أنواع العبودية ومن أنواع الخيرات ما لا يمكن أن تحصل لهم إلا بواسطة هذا الأمر المؤلم من الشر، كالمنازعة بالحكم إلى حكم آخر، فأحياناً تجد الواحد قد لا يعمل حساباً لمثل هذا، وأنت إن ابتليت قد لا تطمئن لهذا، لكن لا تعترض على هذا القدر من المرض الذي حصل لك ونحوه من البلاء، فالذي حصل فيه خير كثير لك، ولا تطلب البلاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سلوا الله العافية)، وقال: (اللهم إني أسألك اليقين والعافية).

فهل تتصور أنه لن يأتيك بلاء؟ لا، فسوف يأتيك بلاء لا تطلبه أنت، لكنه سوف يأتيك لوحده بإرادة الله عز وجل وبتقديره، فاصبر، وقبل هذا لا تطلبه، لكن لا تقل إن نزل بك بلاء: أنا متضايق من هذا، وكأنك تريد أن يجعل لك الاختيار وتقول: أنا أريد هذه ولا أريد هذه، فيصبح عند الإنسان سخط وجزع بدرجة ما، وهذا هو المذموم، وهذا سبب شقاء الإنسان، فلو أن الإنسان ما غضب أن الله قدر هذا لرأى من وراء الألم هذا أنواع خير كثيرة جداً، كما قال ابن مسعود: حبذا المكروهان: الموت والفقر والغنى.

وما أظنه يعني إلا هذين الأمرين المطلوبين عنده: الموت والفقر والله أعلم؛ لأن الموت يستريح به من هم الدنيا، وهو لا يريد أصلاً؛ لأنه فوض أمره لربنا سبحانه وتعالى، (اللهم أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خير لي)، ويعوذ بالله من الفقر إلى العباد، ولو لم يكن معه إلا قليل من المال يستفيد منه لكان أحب إليه من أن يحتاج إلى أحد فلا يلبى.