إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فلقد كرم الله عز وجل الإنسان أعظم تكريم، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه كرَّم بني آدم، فقال:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:٧٠]، فكرمه الله سبحانه وتعالى إذ جعله مخلوقاً لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وبهذا ترتفع نفسه وتسمو عن صفات البهيمية، وإلا فإنه يكون في أسفل سافلين، كما قال عز وجل:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}[التين:١ - ٦].
فأقسم الله سبحانه وتعالى بالأماكن التي نزل فيها وحيه على الرسل إلى بني البشر؛ لكي يتمم الله عز وجل عليهم نعمته بتقويم نفوسهم وقلوبهم، كما قوم ظواهرهم وأبدانهم فقد خلقهم الله عز وجل في أحسن تقويم، ولا بد أن يكتمل هذا التقويم بتحسين بواطنهم، فأنزل الله عز وجل كتبه في هذه الأماكن الثلاثة: في بيت المقدس الذي يزرع فيه التين والزيتون، وفي طور سينين عندما أنزل الله عز وجل التوراة على موسى، وفي مكة البلد الأمين حين أنزل الله عز وجل القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من لم ينتبه ويلتفت إلى ما جاءت به الرسالات رد إلى أسفل سافلين في بدنه وروحه وقلبه، في بدنه حين يهرم ويكبر، ثم بعد ذلك يصبح جيفة منتنة والعياذ بالله، وأما القلوب فما أكثر ما تموت قبل الأبدان، تموت حين لا تعرف ربها ولا تتوجه إليه ولا تحبه ولا تخضع له ولا تستسلم ولا تنقاد ولا تطيع، فتموت وتتعفن ويخرج منها النتن والخبث والعياذ بالله، إلا أن يحييها الله سبحانه وتعالى، والإنسان حين ننظر إليه بهذه القيمة الغالية العالية الرفيعة يكوِّن ثروة يغير بها الحياة على وجه الأرض، يغير صورتها وكيفيتها، وأما إذا نظرنا إليه كما ينظر إليه أعداء البشر، كآكلة استهلاكية يأكل ويشرب، وليس متطلباته إلا الطعام والشراب واللباس فإنه يصبح عبئاً، وتصبح كثرة البشر مصيبة، إذ يتحول الإنسان إلى أسوأ من البهيمة، إنهم يتعاملون مع البشر على أنهم كالبهائم والعياذ بالله، وبالتالي لا بد من تنقيصهم، والإنسان إنما يصبح أهلاً حين ينتسب إلى آدم عليه السلام الذي كرمه الله عز وجل، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وعندما يحقق العبودية لله سبحانه، وعندما يتخلص من أسر الشهوات، وكأنه ولادة جديدة، كما قال ربنا سبحانه وتعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}[الأحزاب:٦]، وفي قراءة أبي وهي قراءة تفسيرية:((وهو أب لهم)) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أباً للمؤمنين، وأزواجه أمهات للمؤمنين، وإنما كان أباً لهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بنبوته ولدت قلوبهم وخرجت أرواحهم من ظلمات الجهل والظلم والشهوات والغي والفساد إلى نور الإيمان والمعرفة والتوحيد، كما قال عز وجل:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:١٢٢].