للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المؤمنون هم الأكثرون في الحقيقة]

ثم بعد تجاوز حدود الزمان تجاوز أيها المؤمن حدود المكان؛ لتعلم أن الكون كله مطيع لله، فهناك عرش تحمله ملائكة كرام يسبحون الله ليلاً ونهاراً، ومن حول العرش يعظمون الله أكبر تعظيم، ويقدسونه ويسبحونه، وترى الكون كله كذلك يسبح، وأنت مرتبط بهذا الكون، بل إن الله عز وجل جعل لك شأناً عظيماً؛ حيث سخر ملائكة كراماً من حملة العرش -وما أعظمهم-، فقد أذن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث عن ملك منهم ما بين شحمة أذنه إلى عاتقة مسيرة سبع مائة سنة، وقد جعلهم الله عز وجل يستغفرون لك، ويدعون لك بالتثبيت، وهم مع كونهم منشغلون تمام الانشغال بعبادة الله، فقد جعل من عبادتهم الدعاء للمؤمنين، فأنت لست وحدك وإن كنت ترى نفسك فرداً ذليلاً ضعيفاً، لكن جنود الله عز وجل أكثر: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١]، فجعل الله سبحانه وتعالى ملائكته يدعون لعباده المؤمنين، ويستغفرون لهم، ليقيل عثراتهم، ويكفر سيئاتهم، ويثبتهم، وينصرهم، ويؤيدهم، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:٧].

وكم عدد الكفرة في الأرض؟ والله مهما بلغوا الملايين، ومهما اعترضوا وأبوا واستكبروا أن يسبحوا ربهم عز وجل فإن المؤمنين والملائكة سيسبحونه وهم أكثر وأعظم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد، لا يفترون عن التسبيح والذكر وعبادة الله)، فلذلك إذا كثر الكفار فجنود الله أكثر، وإذا كثر الظلمة فمن يعبد الله ويسبحه أكثر {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١]، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:٢٤]، فيظنون أنفسهم كثرة ويقولون: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:٥٦] وقالوا: ((نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ))، ومع ذلك فهم قليل، وسيعلمون ذلك إذا رأوا حقائق هذا الكون على ما هي عليه عندما ينجلي الغبار، وعندما يفيق الناس من رقدة الحياة الدنيا.

أنت أيها المؤمن! تستشعر ذلك في هذه الحياة، فتسعد بها أعظم سعادة مهما كان الضيق في الأرض، فأنت ذا أفق أوسع، فالدنيا كلها بمثابة يوم، وهناك اليوم الآخر.

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٧]، وليس فقط حملة العرش فهناك غيرهم، ولكن الله ذكر أشرف مخلوقاته ليذكر إيمانهم واستغفارهم لعباد الله المؤمنين، وإلا فالكائنات كلها تسبح له كما قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:١]، وقال: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف:١]، وقال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤].

فإذا استشعرت القلة والذلة والضعف فانظر إلى الكائنات من حولك، وانظر إلى الأرض التي تمشي عليها، والسماء التي يصعد إليها عملك، والطير وهي صافة بأجنحتها، وتأكد أن الكل يعبد الله، وهو يحبك، وهو يريدك أن تثبت، فيحبك إذا كنت مؤمناً، كما قال عز وجل عن آل فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:٢٩]، إذاً: فالسماء والأرض تبكيان على المؤمن؛ لأنهما تحبانه وتريدان أن يبقى عمله الصالح فيهما، وكما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الحيتان في البحر وهوامه، والطير في السماء تستغفر لمعلم الناس الخير).

وكل مؤمن فإن الكون من حوله يؤيده، كما أن المؤذن يشهد له كل ما سمع صوته من الكائنات من مدر وحجر، وكذلك الملبي يشهد له يوم القيامة بذلك، حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا، فالكائنات تسبح الله، حتى الملائكة فإنها تسبح بحمد الله.

إذا رأيت ذلك ارتفعت نفسك عن هذه الدنيا الصغيرة الحقيرة، الضعيف أهلها، الفقراء أصحابها، فالعاجزون الذين من تمسكوا بها، وحرصوا عليها.

{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:٧]، لا بد من وجود الذنوب ولكن كن تائباً، فإن (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فسر على طريق الله عز وجل، والتزم بطاعته، واتق الله ليسخر الله لك من خلقه من يستغفر لك، ويطلب لك المغفرة، فقد تذنب وقد تخطئ وقد تعصي الله، ولكن كن سائراً في طريق الله، ولا تكن على خلاف ذلك، ولا تكن سائراً في غيره؛ فإنك إن كنت متجهاً إلى عبادة غير الله فأخطاؤك لن تغفر، وليس هناك من يستغفر لك، لذلك إذا كنت في الجملة مطيعاً لله عز وجل، باحثاً عن رضوانه، راغباً في ثوابه، راهباً من عقابه، محباً له، خائفاً منه، راجياً فضله؛ فعند ذلك يستغفر لك كل شيء، ويستغفر لك ملائكة الله سبحانه ويقولون: ((فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا)).

((وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ))، فالتزم بسبيل الله.

{وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:٧ - ٨]، فهؤلاء الذين تخشى عليهم إذا فارقتهم، وتخاف عليهم حين يصيبك مكروه أكثر من خوفك على نفسك، (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، ومع ذلك فإنما الاجتماع هناك، فهناك السعادة الحقيقة، فكم يكون فراق أهلك ومالك ستون سنة، سبعون سنة؟ لكن هذه هي سنته سبحانه في أكثر الخلق، وأعمارهم لا تصل إلى أكثر من ذلك في الغالب، ومع ذلك فلابد من الفراق، واعلموا أنكم لن تدخلوا الجنة إلا إذا كنتم مطيعين لله.

{وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:٨] فالملائكة يتوسلون إلى الله بأسمائه وصفاته من أجل أن يجمعك بأحبابك في جنته التي هي كل رضوانه سبحانه وتعالى.

قال عز وجل: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر:٩]، وهي دعوة شاملة في الدنيا والآخرة، فالملائكة تدعوا ربها عز وجل أن يقي المؤمنين السيئات، ومن ضمن السيئات ما يمكره أعداء الله بالمؤمنين، كما قال عز وجل في نفس السورة عن المؤمن: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:٤٤ - ٤٥]، فالله عز وجل يقي المؤمن السيئات في الدنيا، والقبر، والآخرة، وهو محض فضل الله تعالى، وإذا وقي الله المؤمنين السيئات يوم القيامة فهذه هي الرحمة: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:٩].

اللهم اغفر لنا، واجعلنا من الذين تابوا واتبعوا سبيلك، وقنا عذاب الجحيم، ربنا وأدخلنا جنات عدن واجعلنا من الصالحين وآباءنا وأمهاتنا وذرياتنا وأزواجنا إنك أنت العزيز الحكيم، وقنا السيئات {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:٩]، اللهم اجعلنا من الفائزين الفوز العظيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.