[بيان الإله الحق المستحق للعبادة]
قال الله تعالى: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:٥٦]، فبعد أن بين ضلال ما هم عليه صرح بالحق حتى يكون الحق مبنياً في القلوب على طهارة، فيبدأ بالنفي ويثني بالإثبات، فيقول: لا إله إلا الله، أي: يتبرأ من الشرك وأهله، ثم يثبت التوحيد لله، كما قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا} [الزخرف:٢٦ - ٢٨] أي: جعلها الله عز وجل، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:٢٨]، أي: أن كلمة لا إله إلا الله باقية في نفس إبراهيم، ولا يزال في عقبه ونسله من يقولها، فلم تمح دعوة التوحيد من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإن كان الشرك قد طرأ على كثير من ذريته، لكن بقي فيهم من يوحد الله عز وجل.
فهذا درس عظيم من دروس الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ومقام قد ضيعه كثير ممن ينتسب إلى الدعوة والدين والعلم، فيداهن أهل الباطل ولا يصرح بباطلهم، وربما اكتفى بالتصريح ببعض الحق دون أن يبين الباطل.
قال الله تعالى: {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء:٥٦]، وهذا استدلال على توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية، فمعنى فطر السموات والأرض أي: خلق السموات والأرض على غير مثال سابق، وهو أوضح دليل على استحقاق الرب عز وجل العبادة.
ومن معاني الرب: الإله أيضاً، ((بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: الذي يستحق أن يعبد هو ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)).
قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:٥٧]، أقسم إبراهيم بالله أن يكيد الأصنام، فهو يريد هدمها في نفوسهم ويريد هدمها في حقيقة الواقع، وإن كانت إرادة هدمها في النفوس مقدمة على هدمها في حقيقة الواقع، ولذا كاد إبراهيم هذه الأصنام بأن نظر نظرة في النجوم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩]، لينشغلوا عنه ويتركوا أخذه معهم إلى عيدهم، قال: إني سقيم منكم، أو سأسقم، أي: سأمرض قبل الموت، ولابد من أحد هذه الأنواع للتعريض.
فكان ذلك حتى يتسنى له أن يخلو بالأصنام، ودخل البهو الكبير الذي قد وضعت فيه، وقد جعلوا أمامها طعاماً قربوه إليها لأجل أن تبركه تلك الآلهة المزعومة، وعجباً لهم يرونها أحجاراً صماء، ومع ذلك يتركونها وحدها لتبرك ذلك الطعام، فقال لها إبراهيم مستهزئاً ساخرًا: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:٩١]، حتى تنفي عن نفسها نقيصة الأكل، فإن الأكل في الحقيقة علامة على الحاجة والضعف والفقر، ثم قال: {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:٩٢]، فعند ذلك راغ وأسرع عليهم ضرباً باليمين؛ لأنها أقوى، قال سبحانه وتعالى: ((فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا))، أي: فتاتاً وقطعاً صغيرة، ((إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون)) ولقد ترك إبراهيم الصنم الكبير، مع أن الغرض هو تكسير الأصنام كلها في الواقع، وكان الأولى بالتكسير هو الصنم الكبير، ولكن إبراهيم تركه لكي يتمكن من إزالة المنكر الأكبر الذي هو الشرك الذي تعلق في القلوب.
فلا يكفي أن تكسر صنماً أو وثناً، وتظل القلوب متعلقة به، فإنك في الحقيقة لم تغير شيئاً، وسوف يعبدون صنماً بدلاً منه، فلا يهدم الشرك إذا لم تهدم هذه الأصنام في القلوب، وهذا فيه دليل على مراعاة المصلحة والمفسدة في قضية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه يجوز ترك بعض المنكر للتمكن من إزالة ما هو أكبر منه، لا رضاً بالمنكر ولا إقراراً به، ولكن إثارة لعقول البشر في إزاحة الباطل عنهم كما فعل إبراهيم عليه السلام، وكذلك حتى يتسنى له أن يقيم عليهم الحجة التي يتمكن بها من هدم الباطل في قلوبهم، وهذا هو الغرض المقصود، وسواء تحقق أو لم يتحقق، ولذا كان الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة هو أن يدعو إلى الله ويهدم الباطل في النفوس، ولم يكسر صنماً من أصنام المشركين، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى كان قد فتح عليه من جوامع الكلم ما يقيم به الحجة دون كسر الأصنام، وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية، والأصنام حول الكعبة منصوبة، فلم يكسرها صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يراعي العهد الذي دخل به مكة، فأراد أن يفِ بالعهد ولا ينقضه، ثم لما دخلها فاتحاً بفضل الله كسر تلك الأصنام، وجعل يشير إليها وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:٨١]، والأصنام تتساقط على وجهها.
فهكذا تنمو دعوة الحق بفضل الله، وليس هذا باختلاف بين منهج إبراهيم ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو منهج واحد وطريقة واحدة، وإنما كسر إبراهيم الأصنام لا لمجرد إزالتها، بل ليقيم عليهم الحجة، والحجة تتنوع، وهذا اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، فقد يحلو للبعض أن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أتم من حكمة إبراهيم، وليس الأمر كذلك، بل إبراهيم إمام الأنبياء، وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه واتباع ملته، وإنما هو اختلاف في أنواع الحجج التي يراد إقامتها، وقد سبق أن إبراهيم ترك الصنم الكبير حتى يقيم الحجة عليهم ((لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ))، فيتنبهوا إلى عجز تلك الأصنام وفقرها وحاجتها، والطريق واحد بفضل الله سبحانه وتعالى، وعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يوازنوا في أنواع إقامة الحجة والبيان على من يدعونهم، ويختاروا المناسب من ذلك في كل وقت، ولا يبادروا دائماً إلى طريقة واحدة، لأنه ربما أفسدت عليهم دعوتهم.
فكثير من الناس قد يستعمل من وسائل تغيير المنكر -في ظنه- ما يترتب عليه زيادة ذلك المنكر، بل ويترتب عليه تمسك الناس به أكثر، فهذا أمرُ لا بد أن نفقهه، ونعلم أن ترك بعض المنكر لغرض إقامة الدعوة إلى الله عز وجل في وسط الناس أمرٌ قد سبق إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فضلاً عن أن يكون هناك عجز عن إزالة ذلك المنكر، فإنه عذر للدعاة إلى الله في عدم إزالته بين يدي الله طالما قد دعوا إلى الله، وصرحوا بأن هذا منكر، وعلى الإنسان أن يترك أرض المنكر إذا أقام الحجة، وظل الناس على باطلهم لا يقبلون الحق.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.