للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النهي عن التفاخر وضرره على إيمان المسلم]

إن هذه الشهوات نوع من اللهو اللعب، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:٣٢]، فهذه الحياة التي من أجلها ينفق الناس كل أوقاتهم، ومن أجلها يسفكون دماءهم ويستحلون محارمهم، ومن أجلها كفر من كفر، ونافق من نافق، وظلم من ظلم، والعياذ بالله من ذلك كله، هي لعب ولهو وزينة، فهي زينة يتزين الناس بعضهم أمام بعض فيها، ويفتخرون بما يتزينون به، ومن أجل ذلك عبدوا الدراهم والدنانير والقطيفة والخميصة، فتعسوا في هذه الحياة مصداقاً لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)، فهذا الذي زهد في أعظم ما يتنافس الناس فيه من التفاخر في الدنيا والوجاهة فيها، هذا عبد زاهد.

(طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، فإن أمر أن يكون في الساقة -وهي مؤخرة الجيش- لم يأب ذلك، بل كان فيها مؤدياً دوره، ولا يقول: إن لم تصدروني في الصفوف الأول، وإن لم تعطوني صدور المجالس؛ فلا أكون معكم، ولا أنفذ ما تأمرونني به، وإنما هو مغمور في وسطهم، مذكور عند الله عز وجل في الملأ الأعلى، لا يعرفه أهل الأرض ولكن يعرفه أهل السماء، وهو إن كان في الحراسة -أي: أمر بأن يكون في الحراسة- كان في الحراسة، فلا يستنكف أن يكون حارساً لغيره ممن له عند الناس منزلة أكبر، وتكون حياته أهم من حياة هذا الحارس، فلا يستنكف عن ذلك طالما أن ذلك في سبيل الله، فهو يبذل ولا يشترط منزلة معينة ولا مكانة معينة، وعلامة ذلك أنه إن استأذن لم يعرف، ولذلك لا يؤذن له، ولا منزلة له عند الناس تجعلهم إذا شفع يشفعونه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، فطوبى لهذا العبد، بخلاف ذاك العبد الأول الذي عبد الدرهم والدينار، وعبد المظاهر وتفاخر بها، وعبد القطيفة والخميلة والخميصة، وعبد الوجاهة لدى الناس، ومن الناس من يكون في عبوديته هذه مشركاً بالله الشرك الأكبر، ومنهم من يكون على أدنى من ذلك -أي: مشركاً شركاً أصغر- على حسب تعظيمه لهذه الشهوات، فمن عبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميلة والخميصة بحيث يبيع دينه بالكلية من أجلها، فهو مستعد لأن يبيع دينه بعرض من الدنيا، فإذا أمسى مؤمناً وعرض عليه في الليل شيئاً من الدنيا على أن يبيع دينه باع فيصبح كافراً، وإذا أصبح مؤمناً وعرض عليه في أثناء يومه أن يبيع دينه بشيء من هذه الدنيا باع فيمسي كافراً والعياذ بالله.

فهذه فتن مظلمة تطغى على هذا العبد، وإن سعى إلى السعادة في ظنه فهو تعيس لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه بالتعاسة، فهو مستجاب الدعوة عليه الصلاة والسلام، سواء كان خبراً أو دعاء فهو على أي الوجهين شقاوة ما بعدها شقاوة.

وأما إذا كان يقدم هذه الشهوات على طاعة الله لكن لا يقدمها على توحيده، لا يقدمها على الدين كله، ولا على إيمانه، فإنه يكون فيه من عبودية هذه الأشياء ما يجعله مشركاً شركاً أصغر، وإن لم يصل إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، والحديث يشمل النوعين، فالتفاخر هذا الذي يسعى أكثر الناس إليه ويحرصون عليه نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق التواضع: (الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، وإن كان الإنسان من ذوي النسب والشهرة والمنزلة، فليس له عند الله عز وجل إلا عمله الذي يستحقُّ به مرضات الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، فالتفاخر الذي يكون بالوجاهة لدى الناس وبالرئاسة والملك ذلك الذي يتنافس الناس فيه ومن أجله تقام الحروب، ومن أجله يقتل الملايين، ومن أجله تنتهك الحرمات، وتنفق الأموال، وتسفك الدماء فهذا حذرنا القرآن منه، فنعوذ بالله أن يفخر بعضنا على بعض.