[صورة من أسلوب القرآن في قصة فرعون مع موسى وبني إسرائيل]
إن فرعون قد امتد تعذيبه لبني إسرائيل من قبل ولادة سيدنا موسى إلى بعد وجود سيدنا موسى، فهو الذي يقول: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:١٢٧]، وهذا كان بعد واقعة السحرة بزمن، أي: أقل تقدير فيه أربعون سنة، والموجود في التوراة نقلاً عن بعض أهل العلم أن المدة أربعمائة سنة والله أعلم، وأعتقد أنها مدة طويلة جداً، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٤]، وذلك التسلط والبلاء الذي لم يوجد مثله قط في التاريخ، صورة غير محتملة من التعذيب، والناس يحزنون لأنهم يدخلون السجن خوفاً من الضرر، والطفل الذي يولد يقتل ويذبح أمام أمه، بل {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:٤] أي: للخدمة، فتخيل اليوم الكفرة عندما يقتلون أولاد المسلمين خوفاً منهم، أو يأخذون بعض النساء كالعراقيات أو الفلسطينيات في إسرائيل ليخدموا من في بيوت اليهود، ويقيدونهن في بيوتهم، أيضاً المسلمون في معظم البلاد الإسلامية يتعرضون لانتهاكات كثيرة، وفرعون كان يقتل أولادهم الذكور، ولم يقل: هذه السنة سوف نعفي الناس من ذلك، وكلمة (ويذبح) أشد من يقتل؛ لأن في الذبح تعذيب للنفس الإنسانية، ويصعب على الشخص أن يرى ابنه يذبح، وسيدنا موسى جاء الذباحون معهم السكاكين، ولهذا فإن أم موسى ألقته في اليم، وكان ذلك أهون عليها من أن تراه يذبح أمامها.
ومكث فرعون على ذلك مدة طويلة، ولكن الله ذكرها في جملتين، وأما لحظات النصر من أولها تطول وتكرر، وأسرار التكرار في القرآن شأنها عجيب جداً؛ لأن كل موضع مختلف عن الموضع الثاني، فيأتي لك بأجزاء من القصة، بحيث تجد فيها تفصيلاً غير التفصيل الآخر، فتعرف في النهاية مجمل المسائل التي حصلت.
قال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:٥٩] فحدد ذلك التوقيت، وهو يوم الزينة عند اجتماع الناس في وقت الضحى.
قال تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:٦٠]، وتخيل الموقف إذ فرعون آتٍ بأبهة وغرور، فحضر الملك والجنود والسحرة والوزراء وكل الناس {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} [الشعراء:٣٩]، وهناك إعداد نفسي: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:٤٠] أي: هم الذين سيغلبون فنتبعهم، وقد جاء الحوار في سورة طه وفي غيرها، وتفاصيل هذا اليوم مذكورة بالتفاصيل؛ لأنه يوم نصر وعزة {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:٦١]، فكرر عليهم هنا موسى الدعوة مرة أخرى، وهذا هو المقصود أصلاً من الدعوة إلى الله عز وجل، وإن كان جمع الناس ليبين لهم معجزة مادية، ولكن قبل ذلك لا بد من الكلام المعنوي المهم، وهو التذكير بمعاني الإيمان والدعوة إلى الله عز وجل: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:٦١ - ٦٢].
فلمجرد أخذ رأي ثان ترددوا قليلاً، وفي هذا دليل على أن الباطل ليس مستقراً، بل هو مزعزع؛ لأنه دائماً يسير في طريق القطيعة، ويتبعه ضعفاء الإيمان الذين تقال لهم الكلمة فيذهبون وراءها دون عقيدة راسخة.
قال تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:٦٢ - ٦٤].
ومثله في سورة يونس: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) [يونس:٧٨].
فسيدنا موسى يريد أن يقول: هل تتخيلون أن الناس كلهم مثلكم، وأن القضية بالنسبة لهم: من الذي له الكبرياء؟ أو من هو المستعلي على الآخر؟ وكان سيدنا موسى يمكن أن يتهمهم كما يتهمون أهل الإيمان دائماً أنهم يريدون الرياسة والملك، ولا يريدون الدين، أو أنهم يريدون الكبرياء في الأرض، ويريدون أن يتفضلوا على الناس.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:٦٥]، فقال: (بل ألقوا).
وفي سورة الأعراف قال عز وجل: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:١١٣ - ١١٥].
وهذا دليل على أنهم بمجرد ما سمعوا من فرعون ذلك الوعد استعدوا للمواجهة، وقالوا: ألق يا موسى! ونحن سنلقي: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا} [الأعراف:١١٥ - ١١٦] وهذا أمر، وفى سورة طه: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:٦٦] ففي الآية الأولى: (ألقوا) أي: أنتم، وهذا استهانة بهم وتحقيراً لشأنهم.
وتلك لحظات عظيمة جداً أفردت بمساحة واسعة جداً في الذكر؛ حتى تشفي صدور المؤمنين من فرعون، فهو الظلم الغشوم، وهو إمام يدعو إلى النار، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال عن أبي جهل: (هذا فرعون هذه الأمة) أي: أن كل أمة لها فرعون، ففرعون شخصية طاغية متكررة الأوصاف قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:٤١] أي: بسلوكه وعمله، أما هو فقد مات، لكن طريقة فرعون ومنهجيته في الظلم مسجلة في التاريخ، ولها أناس يمشون عليها، وسيغرقون نفس غرقه والعياذ بالله من الهلاك.
فمن شفاء القرآن لما في الصدور أن اللحظات العظيمة تذكر بالتفصيل، وهذا يبهج النفوس المؤمنة، ويذكرها بأيام الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:٥]، فالتذكير بأيام الله من أعظم أسباب الثبات على الحق؛ لأنه هناك لحظات من أيام لله عز وجل قد ينطفئ فيها الإيمان وتمكث مدة طويلة، حتى إن الأمة تضجر، وتقول: متى تأتي لحظة الفرج؟ فعندما تتذكر أمثالها من أيام الانتصار والفرج تهون مصائب الطريق، ويهون البلاء، ويمر سريعاً دون أن يؤثر في النفس المؤمنة.
وقصص الأمم السابقة التي أخبر الله عنها لم تكن عربية، وإنما الخطابات في القرآن هي ترجمة أو لمعاني كلامهم بأدق شيء، وهذا من إعجاز القرآن، فهذه الكلمات التي وقعت وعبر عنها بهذه الدقة البالغة، فالمعاني كانت موجودة في ألسنتهم لكن لا يوجد أحد يترجمها من البشر بهذه الطريقة القرآنية أبداً، فذكرت هذه الألفاظ لبيان تلك المعاني بأكمل وجه.
وتفاصيل القرآن للقصة الواحدة في عدة مواطن له حكم وفوائد وأسرار عظيمة، فهي ليست مجرد تكرار عادي، وفي بعض المواطن تكرار ظاهري فقط، فمثلاً: السحرة كانوا عدة آلاف، وقد يكون بعضهم قالوا: (أئن لنا مرة)، ومرة أخرى قالوا: (إن لنا) فكل هؤلاء يريدون أن يظهروا تبعيتهم لفرعون، ولا مانع أيضاً أن يكون بعضهم قال: (رب موسى وهارون) وبعضهم الآخر قال: (آمنا بربنا) فحكى الله القولين.
وبعضهم قال أيضاً: (رب هارون وموسى) فبعضهم قدم اسم موسى وبعضهم قدم هارون، فمن قال: (هارون وموسى) فهو قاله مراعاة لسيدنا هارون، لأن سيدنا هارون أكبر في السن، ومن قال: (موسى وهارون) راعى موسى من جهة الدين.