الأمر الثاني الذي يحصل به الرجاء بعد تحقيق الإيمان: أن يكون الإنسان مهاجراً في سبيل الله، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا}[البقرة:٢١٨]، والهجرة بالبدن فرع عن الهجرة بالقلب، بل لا تحصل الهجرة بالبدن إلا بهجرة القلب أولاً، وهجرة القلب إلى الله فرض، وهجرة البدن تختلف باختلاف الأحوال.
إن الذي أوجب أن يهاجر المؤمن من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأوجب هجرة المؤمنين من مكة ومن سائر البلاد إلى المدينة، وهكذا الهجرة الباقية إلى يوم القيامة التي لا تنقطع ما دام الجهاد باقياً؛ إنما أوجبها اختلاف المنهج، إنما أوجبها هجرة المؤمن لعادات الناس وتقاليدهم ومعتقداتهم وأخلاقهم الفاسدة، وتصوراتهم الرديئة، يهجر كل ذلك وهم لا يوافقونه ولا يقبلون أن يعيش وسطهم بتصورات أخر غير سخافات عقولهم وأباطيل عقائدهم، فهاجر بقلبه من عبودية غير الله إلى عبودية الله وحده لا شريك له، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله وحده، ومن التوكل على غير الله إلى التوكل على الله وحده، ومن نصرة الباطل والعصبية والجاهلية إلى نصرة دين الله وحده، فهي التي أوجبت المخالفة والمفارقة واختلاف الطريق فاستوجب ذلك الصدام، ودائماً تبدأ بذرة الطائفة المؤمنة ضعيفة في وسط صخور عاتية تحاول قتلها وتحجيمها ومنعها من الظهور، فلابد أن يقع صدام غير متكافئ القوة في الظاهر مع أنه لمن يرى ما وراء الأمور وما وراء ستر العادة والبدايات يعلم أن موازين القوة الحقيقية في صالح أهل الإيمان ولو بدءوا ضعافاً، إنما ابتلاهم الله بأن وضعهم في وسط صفوف العدو لينظر ماذا يفعلون؟ وماذا يبذلون؟ وكيف يهاجرون؟ كما ذكر الله عز وجل:{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا}[الجن:٢٤]، المؤمنون ليسوا أقل عدداً إلا بالنسبة إلى عدوهم في الأرض، أما بالنسبة لجنود الله فجنود الله أكثر قال تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}[المدثر:٣١]، فهذه الآيات نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، والمسلمون يعدون على أصابع اليد، فهذه الآية:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}[المدثر:٣١]، في سورة المدثر وهي من أوائل ما نزل قبل أن تنتشر الدعوة، وقبل أن يوجد الأجناد، ولو تأملت الكون كله لأيقنت هذه الحقيقة، كم من عباد لله في السماوات والأرض مسبحون لله؟ الكائنات كلها تسبح الله، أيعجز الله عز وجل أن يأمر الأرض أن تبتلع هؤلاء الكفرة وقد ابتلعت بالفعل من قبلهم؟ أيعجز الله سبحانه وتعالى أن يأمر السماء أن تحصبهم وقد حصبت بالفعل أمثالهم؟ ألم نر الزلازل والصواعق وما ينزل من الأعاصير المدمرة؟! الله لا يعجزه أن يأمر البحار أن تغرق هؤلاء وقد أغرقت قبل ذلك من أغرقت، ولو تأملت السماء أو البحر أو الأرض لوجدت الإنسان فعلاً من أصغر ما يكون، وهذه القنابل الهائلة والأسلحة الفتاكة ماذا تصنع وسط هذه الأرض الهائلة؟ إنها كأعواد الكبريت في وسط مدينة هائلة، كطفل يلعب بعلبة كبريت ماذا يصنع؟ هل يمكن أن يهد الجبال؟ حتى ولو هد الجبال {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}[إبراهيم:٤٦]، فهناك آلاف الملايين من المخلوقات التي هي مستعدة للإطباق عليه وإنهائه في لحظة، وهو يوقن أنه لا يملك منها شيئاً, أيملك أحد من الناس ما في باطن الأرض من القوة الهائلة؟ لو انشقت هذه الأرض ماذا سيقع؟ إن الطاقة الموجودة في باطن الأرض، والطاقة في البحار، والطاقة الموجودة في نجم صغير في الكون أو في شهاب فقط كافية لتدمير أمم بأسرها، بل بتدمير الأرض ومن عليها! الله عز وجل جنده أكثر، ولكن ابتلي العباد لكي يهاجروا في سبيل الله، وقد بدأ الصراع لأجل هذا الاختلاف بين المنهج والمنهج، بين الحق والباطل، فهجر المؤمنون العادات والتقاليد وما وجدوا عليه الآباء والأجداد وما وجدوا عليه المجتمعات المنحرفة، وأرادوا أن يعيشوا بإسلامهم، أرادوا أن يعيشوا بنظام حياة مختلف عن نظام الحياة التي يحياها من يعيشون لبطونهم وفروجهم، ومن يعيشون لكبريائهم وجبروتهم وغرورهم، ومن يعيشون لأجل أمراض إبليسية وأخرى أرضية شهوانية حيوانية، لا يعيشون إلا من أجل ذلك، وأهل الإيمان يريدون أن يستنقذوا العالم من شر هذه الأمراض، وأهل هذه الأمراض يريدون فرض باطلهم على الناس، ويخدعونهم أعظم الخداع، فحصل الصراع، وهو صراع غير متكافئ القوة فيما يبدو للناس، أهل الباطل أقوى والحقيقة العكس تماماً، لكن هذا ابتلاء لأهل الإيمان لينظر الله كيف يعملون، فبدأت الهجرة البدنية فكانت أثراً من آثار هجرة القلب أولاً، فمن هاجر لابد وأن يجد الرجاء، من هاجر سوف يصطدم، فما الذي يفتح له الأبواب؟ وما الذي يسهل له الصعاب؟ وما الذي يجعله يتخطى تلك العقبات؟ إنه الرجاء، فإيمانه ومعرفته بالله هو أصل المعرفة، ثم هجرته إلى الله بقلبه وإن احتاج ذلك إلى أن يهاجر ببدنه فذلك الذي يفتح له باب الرجاء.