[تسلية الله للمؤمنين في الآيات]
ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين: ((وَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا بسبب ما جرى.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩] أي: العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون.
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:١٤٠] أي: إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتلت منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم مثل ذلك كما حصل يوم بدر، فقد قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون.
قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] أي: نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة.
ولهذا قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:١٤٠] قال ابن عباس: (ليعلم) أي: لنرى وليبين أنه ليس علماً مستأنفاً جديداً لم يكن معلوماً من قبل، بل هذا علم مشاهدة بعد أن كان علم غيب، والله عالم الغيب والشهادة، يعلم ما في غد، فإذا وقع وشهده سبحانه وتعالى واقعاً علمه واقعاً، لهذا قال ابن عباس في مثل هذه الآيات: لنرى من يصبر على منازلة الأعداء.
قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:١٤٠] أي: يقتلون في سبيلي، ويبذلون مهجهم في مرضاتي.
قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:١٤٠ - ١٤١] أي: يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما هو فيهم.
قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤١] أي: إنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، نسأل الله أن يمحق الكافرين.
ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢] أي: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].
وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:١ - ٣].
فلهذا قال هاهنا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢] أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيلي، والصابرين على مقاومة الأعداء.
وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:١٤٣] أي: قد كنتم أيها المؤمنون! قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتتحرقون عليهم، وتودون أن لو تنالوا منهم، فقد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونكم فقاتلوا واصبروا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
فلهذا قال تعالى: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) أي: الموت، وشاهدتموه وقت لمعان السيوف، وحد الأسنة، واختلاس الرماح، وصفوف الرجال للقتال، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل، يتخيل الموت أمامه! وهو: مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيل الشاة صداقة الكلب وعداوة الذئب، أي: تحس بها وتدركها بهذا النوع من التخييل.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.