الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليلة، وأيقظ أهله، وشد المئزر، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان طلباً والتماساً لليلة القدر، وطلباً لفضل الله عز وجل في هذه الليالي كلها، فهذه خير ليالي السنة، وهي أفضل الليالي على الإطلاق، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، والنبي صلى الله عليه وسلم رغب في السبع البواقي أكثر فقال:(فمن غلب على العشر الأواخر فلا يغلبن على السبع البواقي)، وذلك أن آخر العمل يكون الإنسان قد تهيأ فيه للمنازل العالية، فإذا أفاض الله عز وجل عليه نعمة في آخر هذا الشهر الكريم كان أهلاً لقبول هذه النعمة، وأهلاً لاستثمار هذا الخير وتأثيره في قلبه؛ ولذا كان دائماً التمهيد للأمور العظيمة بكثرة العبادة والذكر والتلاوة والصلاة والقيام والركوع والسجود، كما قال سبحانه وتعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف:١٤٢]، وهذه الأربعون كان موسى يصوم نهارها ويقوم ليلها؛ تهيئة لسماع كلام الله سبحانه وتعالى، ولتقريبه نجياً، وهو في هذه المرة يقدم مشتاقاً محباً بعد أن ذاق الحلاوة التي لا توصف في المرة الأولى، مع أنه كان يطلب ناراً وهدىً وخبراً غير الذي حصل عليه، فكان يريد ناراً فرأى نوراً أعظم من الذي يطلب، وكان يريد هدىً على الطريق فرأى هداية أتم مما كان يطلب.
وكان يريد مخبراً يخبره عن طريقه فوجد إخباراً من رب العالمين سبحانه وتعالى، فكانت المرة الثانية أكمل، وكان محباً متعجلاً إلى ربه راغباً في رضاه.
وهكذا مريم عليها السلام عندما هيئت لتحمل الأمر العظيم في أمر ولادة المسيح نادتها الملائكة: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:٤٣].