للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإنفاق في السراء والضراء]

ثم ذكر الله عز وجل جملة من الأعمال التي هي من صفات المتقين المسارعين إلى المغفرة وهي: قوله تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) والنفقة في السراء والضراء علامة على بذل الإنسان لنفسه وماله في سبيل الله، وعلامة على حبه الصادق لله عز وجل، وليس فقط يعبد الله على حال واحده، ويترك العبادة على الحال الآخر، بل إنه ينفق في كل الأحوال، ويعبد الله سبحانه وتعالى بكل أنواع العبادة، فلا يحجزه حاجز عن التعبد لله سبحانه وتعالى، وليس هناك إطار محدد لا يستطيع أن يعبد الله خارجه، لا، بل هو يعبد الله بكل ما تيسر له من أنواع العبادة وعلى أي حال.

قوله: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)) والنفقة في الضراء أعظم ثواباً عند الله من النفقة في السراء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان فتصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها) فسبق الدرهم مائة ألف درهم، وذلك أنه أنفقه في الضراء.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وبالفعل فقد تصدق بعض أصحابه رضي الله عنهم بشق تمرة، ولم يكن عندهم غيرها، وذلك لشدة حرصهم على الخير، وكان أصحاب الصفة رضي الله عنهم يحاملون على ظهورهم بالنهار، ثم يتصدقون ويكفون أنفسهم عن السؤال، ويقومون بالقرآن في الليل.

فلذلك سبقوا إلى الله سبحانه وتعالى هذا السبق العظيم، ولم يكن عندهم مسكن ولا أهل ولا مال، ومع ذلك كانوا يعملون حمالين، وتخيَّل إنساناً لا يجد عملاً إلا أن يحمل على ظهره، كأن يسقي الماء مثلاً، أو يحمل أثقال الناس على ظهره، وهو من قراء القرآن الذين يقومون بالليل، ثم يجهدون بالنهار لكي يتصدقوا وهم فقراء.

وهذه شربة لبن يصف أبو هريرة رضي الله عنه حاجته إليها، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أصحاب الصفة جميعاً ليشربوا من شربة لبن -سبعين أو ثمانين رجلاً- فشربوا جميعاً من شربة واحدة؛ لأنه لم يكن عندهم شيء، ومع ذلك يحرصون على الصدقة.

وقد جاء بعض الصحابة بصاع من شعير ليتصدق به، فكانوا يجتهدون في النفقة في سبيل الله على كل حال، فلا ينفقون في السراء دون الضراء، وإنما ينفقون في السراء والضراء، وأقل من ذلك من ينفق في السراء، ويمسك في الضراء، وأسوأ الأحوال من يمسك في السراء والضراء والعياذ بالله! وذلك أنه في الضراء في هم الفقر والحاجة، وفي السراء في بخل الغنى والحرص على المزيد، وأكثر الناس كذلك، أكثر الناس كما وصف الله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:١٩ - ٢٢]، فلابد أن يعود الإنسان نفسه على النفقة، وأن ينفق ولو شيئاً يسيراً.

وقد كان بعض السلف يتصدق بأي شيء كل يوم، ولو لم يجد إلا بصله، فكان يجعلها في كمه ويقول: يا الله! لم أجد غيرها، فيأتي فيجعلها في كف المسكين، وما أيسر أن يتصدق الإنسان بهذا الشيء، ولكن الشيء العظيم أن يعود الإنسان نفسه على البذل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي) أي: يفرغ من إنائه الذي هو ملآن شيئاً يسيراً، لكنه شيء يؤدي إلى الحب والود، ويعود الإنسان على البذل والعطاء، ويؤكد صدق حبه لله عز وجل، فهذه سلوكيات مهمة جداً لا بد أن نهتم بها ونسعى إليها.

وفي الحقيقة أن النفقة في سبيل الله تحرر الإنسان من أسر الناس، وتحرره من شح النفس، وتعبده لله وحده لا شريك له، وترفعه فوق روابط الأرض وجاذبيتها التي تمنع روحه من الانطلاق، فإذا تصدقت وأنفقت وكنت محتاجاً فهذه أفضل الصدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل: من ليس معه مال ومع ذلك يبذل جهده في أن ينفق في سبيل الله.