[أهمية الرفق في الدعوة إلى الله]
ولتكن الدعوة بالأسلوب الرفيق الراقي الشفيق كأسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوته، قال الله عنه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:٤٢]، فناداه بقوله: (يا أبت!) ليذكره بالعلاقة بينه وبينه، والتي تقتضي كمال الشفقة، فذكره بلفظ الأبوة مضافاً إليه حرف التاء، وهذه الصيغة من أرق الصيغ التي تؤثر في نفس من شاء الله عز وجل هدايته، وهذه الكسرة التي في حرف التاء تشعر الأب بانكسار ابنه له، وهذا الانكسار من الرحمة، كما قال عز وجل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:٢٤]، وهذا الانكسار للوالدين لا يقع من كثير من الأبناء، فيترتب على ذلك من العقوق والقطيعة للأرحام ما لا يرضاه الله عز وجل.
فالله عز وجل فرض على الابن أن يرفق بأبيه وأمه، وأمه مقدمة على أبيه في البر والإحسان وحسن الصحبة والرفق واللين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب ورحم موصولة).
فينبغي أن تكون في أتم الحرص على إظهار هذا الرفق واللين، وإذا كان الله عز وجل قد أمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون الطاغية قولاً ليناً، كما قال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤]، فأولى الناس بالرفق والقول اللين أهل بيتك، وأقاربك، خصوصاً والديك، وكن كما قال سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:١٢٥]، وأنت ليس عليك هدى أحد، ولكن عليك أن تحسن الأسلوب؛ فإن الفظاظة وغلظة القلب -خصوصاً مع الأقارب والآباء والأمهات- من أعظم أسباب نفرة الناس عن الالتزام بالكتاب والسنة، ومن أعظم أسباب سوء الفهم الذي يقع للكثيرين، فيصدقون وسائل الإفساد التي تشوه صورة الالتزام؛ لأنهم يجدون في سلوك أبنائهم البعيد عن الشرع مبرراً لتصديق ما يروجه أهل الباطل عن دعوة الحق، فلا بد أن تكون رفيقاً شفيقاً في دعوتك، فإن الله عز وجل رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
ولا نعني بذلك المداهنة وقول الباطل والسكوت عن الحق، وإنما نعني الأسلوب الطيب في توصيل كلمة الحق، وإظهارها، ولقد قال إبراهيم لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:٢٦]، وقال: ((إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) وقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:٧٤].
وليس هذا من باب السب والطعن، ولكن من باب بيان الحق، فلا نقول عن الحق: إنه باطل.
فما أكثر ما يشتبه الأمر على الناس! فيصفون الباطل بأنه حق، وأنه لا بأس به، ويقولون: أسلوب حسن، ودبلوماسية في الدعوة! نعوذ بالله! فهذا هو الضلال، وهذا هو الذي يحصل به الانحراف.
وإنما الأمر يكون في طريقة العرض، وفي استغلال العلاقة الأسرية، وعلاقة البنوة والأبوة والأخوة والقرابة في بيان الحق، وإظهار الشفقة، وإظهار إرادة الرحمة، والخير بمن تدعوه، وفي نفس الوقت تبين له الحق البيان الكافي والشافي، لا أن نتركه من دون بيان، ولا بد من أن يشعر منك بصدق مشاعرك في إرادة الخير له، وفي حب الخير له، فأنت بمحبتك له تحب له الخير، وتحبه ذلك الحب الفطري، فإذا لم يكن على الهدى تحب هدايته وإرادة الخير له، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (لإسلام أبي طالب كان أحب إلي من إسلام أبي قحافة؛ لأن إسلامه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهو يحب إسلام أبيه، وقد حقق الله عز وجل له ذلك.
فالغرض المقصود أن تكون محباً لهداية أهلك وأقاربك، مؤثراً فيهم بحسن العشرة، والسلوك الطيب، والخلق الحسن، الذي يجعلهم يحبونك رغماً عنهم، ويصدقون كلامك وإن أظهروا التكذيب، والرد؛ فأنت ببرك لوالديك وصلتك لرحمك وإحسانك إلى جيرانك تكون قد سلكت سلوكاً مباركاً في الدعوة إلى الله، إما إذا عققت والديك وقطعت رحمك وأسأت إلى جيرانك فتكون بفعلك قد قمت بأعظم أسباب الصد عن سبيل الله.
وإن كنت مظهراً أنك تدعو إلى الله، وإن كنت مظهراً أنك ملتزم بحقيقة الالتزام والدين والطاعة، فلا بد أن تكون مجتهداً في إظهار الإحسان إلى الخلق.