للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكاية ابن عباس لتفاصيل معركة أحد]

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد يعني: ما نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصره يوم أحد.

قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله؛ إن الله يقول في يوم أحد: ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)) قال ابن عباس: والحس القتل.

قال: ((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)) إلى قوله: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)) قال: وإنما عنى بهذا الرماة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا) وهذا تشديد وتغليظ في الثبات على ألا يفارقوا أماكنهم.

قال: فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأبادوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعاً ودخلوا في العسكر ينهبون) ففعلوا هذا مع أن ما وقع في بدر كان قد علمهم أن الغنيمة سوف تقسم على الكل، ولكن كانت هذه عادات الجاهلية، ولذا قالوا: الغنيمة الغنيمة.

وهذا دليل على أنه لا يوجد أحد يظن بنفسه السلامة من الدنيا، فإذا فتحت الدنيا على الإنسان دائماً اشتهاها أكثر، فالذي جعل الرماة يتركون المكان هو أن الدنيا فتحت، والغنيمة موجودة، ولذلك من الخطر العظيم على الإنسان أن تفتح عليه الدنيا.

قال: ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا وشبك بين يديه.

يعني: ارتبكت الصفوف واختل الجيش، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس -أماكن في جبل أحد- وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق.

أي: بسبب الارتباك، ودائماً تجد في أوقات الشدة أناساً عندهم الاستعداد لقبول أخبار الشر والسوء، وعندهم استعداد للتشاؤم، إلى أن قال: فرقى نحونا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله) ويقول مرة أخرى: (اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا) قال: حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل مرتين.

وهبل: اسم صنم من أصنام قريش، أين ابن أبي كبشة؟ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا ينسبونه لزوج مرضعته.

قال: أين ابن أبي كشبة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ يسأل عن هؤلاء الثلاثة خصوصاً؛ لأنه يعلم أنهم أساس الإسلام، ويعلم أن وجودهم بقاء لهذا الدين.

قال: فقال عمر: يا رسول الله! ألا أجيبه؟ قال: بلى، فلما قال: اعل هبل، قال عمر: الله أعلى وأجل.

والمشهور أنهم لم يجيبوا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا تجيبوه؟).

قال عمر: الله أعلى وأجل.

فقال أبو سفيان: يا ابن الخطاب! قد أنعمت عينها، فعاد عنها أو فعال عنها، فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر.

قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، فالأيام دول، وإن الحرب سجال.

قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.

قال: إنكم تزعمون ذلك، فلقد خبنا وخسرنا إذاً، ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا، أي: عن رأي سادتنا، قال: ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه.

وهذا سياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس؛ فإنه لم يشهد أحداً ولا أبوه، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائل النبوة، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.

فقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذٍ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل: ((مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ)) فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم، فلما رهقوه يعني: أدركوه قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رهقوه أيضاً قال: (رحم الله رجلاً ردهم عنا) فلم يزل يقول هذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: (ما أنصفْنا أصحابنا أو ما أنصفَنا أصحابنا) يعني: نحن لم ننصفهم، إذ تركنا سبعة من الأنصار يقتلون ولم يقاتل واحد من المهاجرين، أو لم ينصفنا أصحابنا الذين فروا عنا، ولكن طلحة رضي الله عنه هو الذي ردهم، حيث قاتل قتال السبعة حتى ردهم رضي الله تعالى عنه.

وقد كان الرسول يؤخر طلحة إلى اللحظة الأخيرة، حيث قام فقاتل قتال السبعة؛ لأنهم قتلوا ولم يردوا المشركين، أما طلحة فقد قاتل حتى ردهم، وانصرفوا عنه صلى الله عليه وسلم.

قال: فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله أعلى وأجل، فقالوا: الله أعلى وأجل) فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.

والعزى: إله من آلهتهم، يعني: أنه يتعزز به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: الله مولانا، والكافرون لا مولى لهم) فقال أبو سفيان: يوم بيوم، وحنظلة بـ حنظلة، وفلان بفلان، وفلان بفلان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون)، فقال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة، وإن كانت لعن غير ملأ منا.

يعني: فليس الكبراء الذين أمروا بها، ثم قال: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، يعني: ما حصل من المثلة، فإن أهل الجاهلية كانت عندهم كرامة، وكانوا يرون عدم التمثيل بالقتلى خصوصاً أنهم أولاد العم والأقارب، ومع ذلك فعلوا هذه الأفاعيل؛ لأن حمية الجاهلية كانت في نفسه، فهو يريد أن يتشفى شيئاً ما.

قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقرت بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلت شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار).