[الآثار الواردة في الزجر عن البخل]
قال ابن كثير رحمه الله: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) أي: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه وربما كان في دنياه، ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال: ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له بشجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة)، الشجاع ثعبان، أقرع أي: سقط شعره من كثرة سمه.
له زبيبتان: نقطتان سوداوان بين عينيه، يطوقه يوم القيامة أي: يكون هذا الثعبان طوقاً في عنقه فيلتف حول رقبته؛ لأنه لم يؤد زكاة ماله، يقول صلى الله عليه وسلم: (يأخذ بلهزمتيه) يعني بشدقيه، والشدق جانب الخد من الداخل، ومعنى (يأخذ بلهزميته) أي: يتسلط عليه الثعبان حتى يدخل في فمه من الداخل ويلدغه في هذه المواطن.
قال: (يقول: أنا مالك، أنا كنزك) أي: يتحول هذا المال إلى ثعبان حقيقي فعلاً، وهذا الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل، فإن الله عز وجل قادر على أن يحول هذه الأموال إلى ثعابين يوم القيامة، تأخذ برقاب البخلاء، ويعذبهم الله بهذا العذاب.
قال: (ثم تلا هذه الآية: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)) [آل عمران:١٨٠]) وهذا وعيد شديد لمن منع الزكاة، فيجب على المسلم أن يتعلم فقه الزكاة ويؤدي ما افترض الله عز وجل عليه، وهذا فرض عين على كل من له مال تجب فيه الزكاة، فكل من له مال يجب أن يتعلم نصاب الزكاة؛ حتى لا يتأخر عن أدائها إذا وجبت، ويعلم متى تجب عليه، وكثير من الناس يفرط في هذا فيدخل في هذا الوعيد الشديد.
فالآية إذاً في الزكاة الواجبة والنفقة الواجبة، وفي الجهاد في سبيل الله أيضاً كما دل عليه السياق.
والحديث تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه.
حديث آخر رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك)، وهكذا رواه النسائي عن أبي هريرة.
قال ابن كثير: قلت: ولا منافاة بين الروايتين رواية ابن عمر عن أبي هريرة، وقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين عن ابن عمر وعن أبي هريرة، وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح عن أبي هريرة.
حديث آخر رواه الإمام أحمد عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه، يفر منه وهو يتبعه فيقول: أنا كنزك، ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله: ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))) وهكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود موقوفاً، رواه في مستدركه عن ابن مسعود به، ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفاً، ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، بل له حكم الرفع.
حديث آخر: رواه الحافظ أبو يعلى عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك بعده كنزاً)، والكنز: هو ما لم يؤد زكاته، قال: (من ترك بعد كنزاً مثل له شجاع أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه ويقول: من أنت ويلك؟! فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها) يعني من شدة التعب يريد أن يريح نفسه فيعطيه شيئاً من بدنه فيلقمه يده، فيقضم يد البخيل والعياذ بالله، قال: (ثم يتبع سائر جسده) إسناده جيد قوي.
وهذا يعني أنه لا يكتفى باليد، بل يعذب جسده كله بهذا الثعبان، رغم محاولة صاحبه الفرار منه، فلو أن الناس فروا في هذه الدنيا من المال الحرام، أو من المال الذي منع الحق فيه، كما يفرون من هذا لما حصل لهم هذا، نسأل الله العافية، إنما يفرون يوم القيامة من هذه الكنوز التي أصبحت لا قيمة لها، نسأل الله العافية.