[ثقة موسى بنصر الله تعالى]
كان بنو إسرائيل قد سبقوا، وهنا تراءى الجمعان، فجزم أصحاب موسى بأنهم قد أدركوا، ماذا يصنعون؟ البحر أمامهم، والعدو من خلفهم، تأمل في هذه اللحظات، وقارن بين يقين فرعون في نفسه وجنده أنه قد أدرك بني إسرائيل، ويقين بني إسرائيل أنهم قد أدركوا، وموسى صلى الله عليه وسلم في شأن آخر، وذلك لقربه من الله عز وجل.
قال عز وجل: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:٦١ - ٦٢] هذا هو اليقين بوعد الله عز وجل ومعيته، ثم قال: ((إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)) هذه المعية التي سببها: كثرة الذكر، واستحضار أسماء الله وصفاته، واستشعار معانيها وآثارها، والقرب من الله عز وجل بأنواع العبادة التي يهدي الله عز وجل بها من شاء من عباده، فقوله: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) أي: معي في النصرة والتأييد.
وأمر الله موسى عند ذلك بما يفعله، وذكره عز وجل باسمه دون الضمير فقال: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ))، فذكره الله باسمه تشريفاً له، وهو جدير بالتشريف عليه الصلاة والسلام، وهو في هذا المقام لا يعبأ بالجنود، ويأمره عز وجل أن يأخذ بسبب عجيب ليس من الأسباب المعهودة، وإنما نتعلم منه أن نتمثل أمره سبحانه وتعالى، وأن نأخذ بما أمرنا به من الأسباب وإن كانت عجيبة في تسبيبها.
لما أمر الله سبحانه وتعالى موسى أن يضرب البحر بالعصا: فقال: ((أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ)) ففعل، وليس هذا بسبب ظاهر، وإنما هو امتثال للأمر، فضرب موسى البحر بأمر الله عز وجل بعصاه، ((فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)) وأمر الله الأرض فيبست حتى لا يشق الأمر على بني إسرائيل، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:٧٧].
رأى فرعون وجنوده الآية، وانفلق البحر على قدر أسباط بني إسرائيل، اثني عشر طريقاً، وذكر المفسرون وأهل السير: أنه قد جعلت بين الطرق المختلفة شبابيك أو طاقات في الماء، حتى يرى بعضهم بعضاً، ويأنس بعضهم ببعض، وأن إخوانهم ينجون كنجاتهم، آية من آيات الله، ونعمة من نعمه سبحانه وتعالى على المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن أعظم نعم الله عز وجل ما من به على بني إسرائيل من النجاة؛ وذلك علامة على ما يفعله الله بأوليائه دائماً، فهو ينجيهم سبحانه وتعالى بقدرته وآياته، وعليهم أن يمتثلوا أمره؛ لأن امتثال أمر الله: سبب النجاة، وإن كنا لا ندري كيف يقع ذلك، فهذا البحر الهائل كان ينتظر الأمر من الله، بضربة موسى، وانكف الماء بنفسه بقدرة الله سبحانه وتعالى، دون أن يكون هناك حاجز يحجزه إلا ما أمره الله عز وجل به أن ينحجز، وسار بنو إسرائيل، ورأى فرعون الآية، ورأها جنوده، ومع ذلك انطمست البصائر، وحصل العمى، وكان البغي والعدوان هو الصفة المحركة لفرعون وجنوده جميعا، ً قال عز وجل: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) فذكر الله فعل فرعون وقومه، ولم يقل مثلاً: وجعلناهم يتبعونهم، كما ذكره في سورة الشعراء، ولكنه ذكر فعلهم، ففرعون هو الفاعل، وجنوده مشاركون، وذكر في سورة طه قوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:٧٨] ليدل على تبعيتهم المهينة، وحقارة أمرهم في كونهم كالآلة مجرورين أو كالدواب مجرورين بأمر فرعون دون وعي أو إدراك.
وذكر في سورة الشعراء قوله: ((وَأَزْلَفْنَا)) أي: قربنا، ((ثَمَّ)) أي: هناك في البحر، ((الآخَرِينَ)) أي: جعل فرعون وجنده بإرادتهم المخلوقة يتبعون موسى، ولا عذر لهم أن الله هو الذي فعل بهم ذلك؛ لأن الله سبحانه جعلهم يفعلون ذلك باختيارهم بغياً وعدواناً، وهذه عاقبة البغي.
ومعنى: ((بَغْيًا وَعَدْوًا)) أي: تعدياً وتجاوزاً، ففرعون إلى آخر لحظاته معتد باغ، وإلى آخر يوم في عمره ساع إلى الإفساد في الأرض، وقومه وجنوده متبعون له على الباطل إلى آخر لحظة.
فيرون الآيات تلو الآيات، وآخرها هذه الآية، ومع ذلك يتبعونه، ما هذه الطاعة العمياء؟ طاعة تكاد أن لا يوجد لها نظير إلا في أمثالهم ممن ساروا على طريقهم، ممن يتبع الباطل مهما كان بطلانه واضحاً، ومهما كان الحق جلياً، فهو قد تربى على أن يسمع ويطيع أمر فرعون مهما كان هذا الأمر معرضاً له للمخاطر في دينه ودنياه.
وإذا بفرعون يزعم أن البحر قد انفلق له من أجل أن يدرك عبيده الآبقين، ويسير ويسير جنوده، وينتصف سير فرعون في وسط البحر، وآخر واحد من بني إسرائيل قد خرج، وكل جيش فرعون في وسط البحر، فيأمر الله عز وجل البحر أن ينغلق عليهم مرة ثانية، فسبحان الله! تغيرت الموازين في لحظةٍ! تفكر وتأمل كيف كان حال فرعون وهو يسير ويظن هو وجنوده أن البحر سيظل على تلك الحال منفلقاً حتى يدرك بني إسرائيل في الناحية الأخرى؟ عجب والله شأن فرعون! وعجب شأن جنوده! تتغير الموازين في لحظة، وينقلب الحال؛ فينجو آخر رجل من بني إسرائيل، وفرعون وجنوده في وسط البحر، فينغلق البحر عليهم، فيدركه الغرق.
قال عز وجل: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) ذكر عز وجل فعلهم؛ ليبين أنه عدل معهم سبحانه وما ظلمهم، فالبغي والعدوان لابد أن تكون عاقبته الهلاك.