إبراهيم عليه السلام إنما وهب ذلك الولد وولد الولد بعد عمر طويل، كما قال عز وجل عنه:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}[إبراهيم:٣٩]، ونتبين بذلك أن الله سبحانه وتعالى قد يؤخر إجابة دعوة عبده المؤمن وهو سبحانه وتعالى قد قضاها، ولكنه يؤخر ظهورها فترة من الزمن لحكم بالغة، وليوقن المؤمن رغم مرور الزمن بأن الله يجيب دعوته، فإبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة ربه أبداً، رغم ما بلغه من الكِبَرِ، وتعجب حين بلغه نبأ وبشارة ولادة إسحاق عليه السلام، وقالت له الملائكة في بشارتهم:{بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر:٥٥ - ٥٦]، فهو على الكبر لم ييئس من رحمة الله، وكان يعلم أن الله عز وجل يجيب دعوته، فقد قال:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}[الصافات:١٠٠] فبشره الله سبحانه بإسماعيل أولاً ثم بإسحاق ثانياً وبعد إسحاق يعقوب بن إسحاق، وكل ذلك من فضل الله سبحانه وتعالى، فلا نستعجل في الدعاء، ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا؛ فإن الله عز وجل لم يجعل للمؤمن شقاء مع الدعاء، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}[مريم:٤٨] فإذا دعا العبد ربه سبحانه وتعالى فقد كسب في دنياه وآخرته، وقد حصل على ما يريد أو أفضل مما يريد، فإما أن يستجيب الله عز وجل دعوته، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له يوم القيامة من الثواب ما يتمنى معه أن لو لم يكن قد استجاب الله له شيئاً من دعائه في الدنيا، وإلا فكل دعواته مجابة، قال سبحانه:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:٦٠]، وقال عز وجل:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[الشورى:٢٦]، فهو عز وجل يستجيب دعاء المؤمنين ولكن بما هو خير لهم، وبما لا يحسن المؤمن تصوره، وربما ظن خيراً في أمر ويجعل الله سبحانه وتعالى في غيره خيراً منه لعبده المؤمن، فالله يدبر أمر عباده المؤمنين بعلمه وحكمته وفضله ورحمته سبحانه وتعالى، فعلى العبد أن يرضى بما قضاه الله عز وجل، ويوقن بوعد الله، ويوقن بإجابة الدعوات، وعليه أن يظل متضرعاً منكسراً لله سبحانه وتعالى، ولا يشك في وعد الله، فإن الله لا يخلف الميعاد:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:٦٠].
فالله سبحانه وتعالى وعد عباده المؤمنين بالإجابة وهو أكبر وأكثر فضلاً، وإذا أكثروا من الدعاء أكثر الله عليهم من العطاء، وكلما تضرع الإنسان إلى الله وانكسر جبره الجبار سبحانه وتعالى بفضله ورحمته، فعلينا أن نكثر من الدعاء دائماً ولا نستعجل ولا نقول: دعونا فلم يستجب لنا، فإبراهيم عليه السلام هاجر بعد دعوته إلى الله عز وجل، وبقي بأرض فلسطين مدة طويلة من الزمن إلى أن وهبه الله إسحاق ويعقوب، قال تعالى:{وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا}[مريم:٤٩ - ٥٠]، فالله عز وجل يهب من رحمته بالهداية وبالإيمان وبالتوفيق للعمل الصالح بأن جعلهم أئمة يهدون بأمره، فهذه الرحمة الخاصة -الرحمة بالدين وبالعمل الصالح- أكبر وأعظم أثراً من الرحمة العامة التي يرحم بها المؤمن والكافر بالطعام والشراب والنفس والنعم الدنيوية، إن الرحمة الباقية هي الرحمة التي سببها عطاء الله عز وجل وتوفيقه بالعمل بطاعته، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:٧٣] فهذا معنى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا}[مريم:٥٠].
فهي الرحمة التي يخص الله عز وجل بها عباده المؤمنين، وهي التي تبقى وتستمر معهم، قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}[الأعراف:١٥٦]، وذلك أنه إذا رحمه الله عز وجل بطاعته كان ذلك سبباً لرحمته المستمرة المستقرة التي لا عذاب معها ولا شقاء أبداً، وذلك أن تكتب له الرحمة في الآخرة.
قوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا}[مريم:٥٠] فكل من وهب الله عز وجل له نعمة الإيمان ووهب له نعمة العمل الصالح ووفقه للعمل بطاعته فقد قسم الله له من رحمته ما لم يقسم لغيره؛ فليشكر نعمة الله بالثبات، وليشكر نعمة الله سبحانه وتعالى بمزيد الطاعة والخير، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم بأمر الله سبحانه وتعالى، ومزيد العبودية لله عز وجل:{وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:٧٣].