[وصف ساعة الاحتضار من السنة]
وردت في السنة الصحيحة أحاديث كثيرة في إثبات هذا الأمر العظيم: روى الإمام أحمد رحمه الله وأبو داود وابن ماجة والنسائي والحاكم في المستدرك وعبد الرزاق في مصنفه وأبو نعيم والبيهقي وأحمد وهو حديث على شرط البخاري ورواه أيضاً مسلم وأصله في البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد)، اللحد: هو الشق في جانب القبر، والشق هو الموازي للقبر، وهو حفرة في اتجاه القبلة يوضع فيها الميت، بحيث يصير شكل القبر كالحرف لام، بخلاف القبور عندنا فكلها شق فقط، حيث يوضع الميت ويدفن من فوق، وكلاهما جائز، ولكن السنة اللحد.
قال: (فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير)، أي: صامتين، فليس من السنة المظاهرات عند القبور أو الهتافات والدعوات الجماعية، وإنما إن وعظ واعظ فليستمع له الناس، وإن لم يكن فليدع كل إنسان في سره للميت.
قال: (وفي يده عود ينكث به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس).
هذا فيه دليل على أنه يسبق الموت مباشرة نزول ملائكة الموت، الذين هم رسل الله عز وجل، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:٦١]، وهم أعوان ملك الموت، وهناك آيات وردت بأن ملك الموت واحد، وهنا وردت آيات بأنهم مجموعة كقوله: (توفته رسلنا) وكقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:١١]، في هاتين الآيتين أنه ملك واحد.
والظاهر: أن ملك الموت واحد وله أعوان، وهذا الحديث يوضحه، وأن الأعوان الذين يقبضون أرواح المؤمنين بيض الوجوه: (كأن وجوههم الشمس)، أي: وجوههم منيرة مضيئة.
(معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة) الحنوط: طيب يجعل للميت، فالبشر يضعون في الجنازة حنوطاً في الأرض، ويعدون الكفن، والملائكة معها كفن للروح، والناس تجعل طيباً مع الكفن في البدن، والملائكة معها أيضاً حنوط، ولكن من حنوط الجنة للروح المؤمنة.
قال: (حتى يجلسوا منه مد البصر)، كمن ينظر إلى البحر فلا يدرك آخره، هكذا يجلسون منه إلى غاية ما ينتهي بصره (ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان)، فإعلان النتيجة، والنجاح الحقيقي الذي يجب على الإنسان أن يعمل له؛ إذ ليس يعقل أن الإنسان يعمل لمستقبل ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، ومن ثم لا يعمل لمستقبل مئات أو آلاف السنين، والله أعلم كم سيبقى الإنسان في قبره وما بعد ذلك من المستقبل؛ لأن يوم القيامة خمسين ألف سنة، إذاً: فأين المستقبل؟ وبعد هذا الجنة أبداً أو النار أبداً.
(أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء).
انظر إلى هذه النقطة وهي تقع من الكأس تقع بسهولة جداً فكذا روح المؤمن (كما تسيل القطرة من فيِ السقاء)، يعني: تخرج كانسياب قطرة ماء من فم قربة أو إناء.
قال: (فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين)، يعني: الملائكة الأعوان مستعدين للعمل بسرعة.
إذاً: كل روح تقع في يد ملك الموت فيأخذها أعوانه.
ولم يثبت في حديث صحيح أن اسم ملك الموت عزرائيل، إنما هي آثار غير صحيحة، ونحن نعلم أن من صفة ملك الموت ما قاله الله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:١١]، ووردت روايات إسرائيلية أن اسمه عزرائيل، لكن لا تصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فالله أعلم باسمه.
قال: (فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض) تخرج رائحة طيبة ساعة خروج الروح؛ لأنها كانت روحاً طيبة، وكانت في جسد طيب يعبد الله.
قوله: (إن العبد المؤمن) إذاً: في هذا تحقيق للعبودية، وتحقيق للإيمان، ومن هنا تخرج روحه بهذه الطريقة السهلة.
قال: (فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الريح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان.
بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا)، وذلك أنه كان له ألقاب في الدنيا بعضها حسن مثل: عابد صائم مجاهد عالم كريم وليس: بيه وباشا وأفندم، ولكن الأسماء الطيبة التي كان يسمى بها في الدنيا هي أسماء الأعمال الصالحة التي كان يفعلها، قال: (حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له).
إذاً: هناك أبواب للسماء الدنيا، كما قال عز وجل في حق الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:٤٠]، ونحن قد لا نرى هذه الأبواب؛ لأن أمامنا كل هذه الملايين من السنين الضوئية أو مليارات السنين الضوئية، وإذا كنا نحن لا ندرك ذلك كله من محيط السماء الدنيا، فكيف نعلم بعد ذلك بوجود أبواب؟ فيقول البعض: أين الذي تقولون عنه هذا؟ نقول: الله أخبر به، وإذا وصلتم هناك انظروا، لكنكم تعجزون أن تصلوا، فلا يمكن أن تصلوا إلى هذا النجم القريب؛ لأن الوصول إليه عبر مسافة تستغرق مثلاً مليون سنة وكل هذه المسافة فوق طاقة البشر.
قال: (فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة).
إذاً: هناك جنازة للروح يتولاها المقربون من كل سماء، الملائكة وأرواح الأنبياء وأرواح الصالحين يشيعون هذه الروح التي أضيفت إلى أرواح المؤمنين.
قال: (حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين) عليين مأخوذة من العلو، وكلما علا ارتفع واتسع، فكتابه مكتوب في مكان واسع.
قال: (وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه)، هذا دليل على أن الروح سوف يحصل لها اتصال بالبدن الذي يوضع في القبر، وأن هذه المرحلة هي التي ما بين خروج الروح وبين وضعه في قبره، حيث يشيع الناس البدن إلى القبر، والروح شيعت وصعدت إلى السماء، ثم أمر الله أن تعاد الروح مرة أخرى إلى الأرض.
قال: (فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟)، أي: من أين عرفت؟ وهذا من الفتنة، أي: لما أن يسألوه بصيغة المجهول ينتظرون ما يقول؟ لكن كل عبد سوف يسأل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أن من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر بالله، وكافر برسل الله جميعاً، وليس بمؤمن بنبيه، (فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من روحها).
الروح: هو برد نسيم الريح.
(فيأتيه من روحها وطيبها)، الرائحة الطيبة، وكذلك الروح الفرح والسرور، والراحة، كما قال سبحانه وتعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:٨٣ - ٨٤]، الحلقوم: هو الحلق، فإن الروح تبلغ الحلق بعدما تنزع من داخل البدن: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:٨٣ - ٨٦]، هلا إن كنتم غير محاسبين؟ {تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:٨٧]، أي: ترجعون الروح إلى البدن إن كنتم صادقين، هذا لو كان الأمر بأيديكم، ولكن ليس بأيديكم، بل لابد أن تنزع روحه رغماً عنه، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:٨٨ - ٨٩].
مصداق هذا في الحديث: (يأتيه من روحها وطيبها)، الروح هو الراحة والسرور وبرد النسيم، والريحان هو الطيب الذي يأتيه من الجنة ((وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)).
قال: (فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد البصر قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يوم الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح)، المسوح: هو كساء من الشعر الغليظ، وغالباً ما يكون أسوداً.
قال: (فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق روحه في جسده -تفزع وتخاف- فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول)، السفود: هو حديدة معطوفة ملتوية ذات شعب يشوى بها اللحم، والسفود عندما يتعلق في الصوف لا يمكن نزعه منه بسهولة.
(فيأخذها فإذا أخذها