للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صبر السحرة على الابتلاء]

قدر الله عز وجل أن يسلط فرعون على أبدانهم، وأن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي: يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، أو الرجل اليمنى مع اليد اليسرى، ويصلبهم في جذوع النخل، ورغم هذه الهزيمة الفظيعة لفرعون، والتي كانت بالحجة إلا أن فرعون وجد من يطيعه ويفعل ذلك.

قال ابن عباس عن السحرة: كانوا أول النهار سحرة وآخر النهار شهداء بررة.

أي: أن هذه آية على حسن الخاتمة، وأن الله يهدي من يشاء، فإن هؤلاء الناس عاشوا حياتهم كلها في السحر والضلال، والتلبيس على الناس، وإعانة فرعون على باطله، إلا أن خمس أو ست ساعات جعلت نهايتهم أسعد النهايات.

قال عز وجل عن فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:٧١]، والعجيب أن الله ساق على لسان فرعون ما يثبت به السحرة، لأنه لفت نظرهم فقال الله على لسانه: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى))، إلى أنهم أيقنوا أن الله أشد عذاباً وأبقى، ومن أجل هذا استحضروا أنهم قادمون على الله، فصغرت الدنيا عندهم، وصغرت المدة التي يهددهم فرعون فيها بالتعذيب والنكال الفظيع، فأجرى الله على لسان فرعون ما ثبتهم الله عز وجل به، وذلك أنهم عندما قارنوا -بدلالة أفعل التفضيل التي تقتضي التفاضل- بعذاب فرعون عذاب الله أيقنوا أن عذاب الله أشد، وفرعون يظن أنه هو الأشد عذاباً وأبقى والعياذ بالله، فلما قارنوا وكانت المقارنة محسومة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:٧٢]، وهذا جواب على قوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:٧١]، ثم قالوا: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:٧٣]، وهذا دليل أن بداية ممارستهم للسحر كان إكراهاً، فلما تعودوا على الإكراه واستمرءوا الأمر أصبحوا جنوداً لفرعون والعياذ بالله.

وليس بعذر للمرء أن يختار الباطل إذا بُدئ بإكراه إذا لم يكن قلبه مطمئناً بالإيمان، فهم قالوا: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:٧٣]، فأعلنوا أن الله عز وجل خير ثواباً وأبقى سبحانه وتعالى.

قال تعالى حاكياً قولهم: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:٧٤ - ٧٥]، هذا وعمرهم في الإيمان ساعتان أو ثلاث ساعات، ولكن -سبحان الله- لقد خرجت هذه الكلمات المنيرة التي خلدها الله عز وجل بذكرها في القرآن العظيم منهم، وهذه الأقوال كانت مما يذكرهم بها سيدنا موسى عليه السلام، ولكنهم لم يكونوا متنبهين لها قبل ذلك، ولكن الإيمان هو الذي نقلهم إلى الإحساس بها والشعور بها فقالوا: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:٧٥ - ٧٦]، فحسن التزكية وتطهير النفس، سبب في دخول الجنة