يقول الله عز وجل:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:١]، فهذه هي نهاية أمرهم، وقد ذكر الله ذلك بصيغة الفعل الماضي فقال:((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) لتأكيد حصول هذا الأمر، وإن كان في وقت نزول الآية وبعدها لم يزل للباطل أعمال، ولم يزل هناك كفر وصد عن سبيل الله؛ فإبطال الأعمال يتم في هذه الدنيا قبيل نهاية هذه الحياة، وفي الآخرة كذلك سيبطل الله عز وجل أعمالهم.
إذاً: فإبطال أعمال الكفرة الصادين عن سبيل الله يكون في الدنيا وفي الآخرة كما أطلقه الله عز وجل.
فأما في الدنيا فإنهم أرادوا صرف الناس عن دين الله، ومكروا بالليل والنهار ليبعدوا الناس عن الالتزام بالدين، وليرغبوهم بأنواع الشهوات، وليجعلوا أنواع التخويف والإرهاب حواجز تحجب الناس عن الالتزام، فهم يغرقون الناس في أنواع الشهوات، وفي نفس الوقت يستعملون أقسى أنواع التهديد بل والعقوبات لمن التزم بالدين وسار في طريق الحق؛ لكي يصرف هو -إن استجاب- أو غيره ممن يرى ما يفعل به عن دين الله عز وجل، ومع ذلك فلا بد أن يضل الله ذلك العمل، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه، وهذا المكر السيئ لا بد أن يحدث ولا بد أن يبطل، ولا بد أن يهتدي الناس بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيأخذ الله عز وجل بنواصي من شاء منهم إلى سبيل الهدى والرشاد:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الأنفال:٣٦ - ٣٧]، وقال عز وجل:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقان:٣١].
فهم يريدون هزيمة الإسلام ولا بد أن ينتصر، ويريدون إضلال الناس ولا بد أن يهدي الله عز وجل طائفة من عباده إلى الحق، ولا بد أن تتغير الموازين في يوم من الأيام.
وأما في الآخرة فأعمالهم كما وصف الله عز وجل:{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم:١٨]، وقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور:٣٩]، فأعمال الكفار يضلها الله سبحانه وتعالى ويبطلها ويزهقها، ويجعل مكرهم السيئ يحيق بهم، كما أخبر عز وجل:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[فاطر:٤٣]، وكما قال سبحانه:{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}[فاطر:١٠].
وبقي الشق الآخر من القضية وهو: أن الله يتولى إحباط وإبطال أعمال الكفار في الدنيا فلا تظهر نتائجها، والعبرة بنهاية الأمر وخاتمة المطاف، وما يبدو للناس عندما يشتد المكر والكيد فإنما هو تمرد صغير جداً في المملكة الواسعة لا بد وأن ينتهي، وقد تركه الله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه، فالملك ملكه عز وجل في السموات والأرض، ترك بقعة من هذه المملكة -وهي الأرض- يقع فيها ذلك التمرد، وما هي إلا كذرة في هذا الوجود من ملك الله سبحانه وتعالى، وهي في قبضته عز وجل:{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر:٦٧]، فأنى يعجزه سبحانه أن يمحق ذلك التمرد الذي وقع في هذه الأرض؟ ولكنه تركه؛ لأنه أراد من طائفة من خواص جنده، وخلاصة من عباده أن يظهر منهم مدى إيمانهم والتزامهم بطاعته، ولذلك ترك هذا التمرد يقع، وأمر طائفة من جنده أن يكونوا محاربين بلا عدد ولا عدة، أو بأقل العدد والعدة دفاعاً عن دينه، وملايين الملايين من جنده تنتظر الأمر لتأييدهم في اللحظة التي يريد ويأذن:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر:٣١].