أخبر القرآن بوجود حياة في القبر بداية من ساعة الاحتضار، كما قال عز وجل:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}[الأنعام:٩٣].
قوله:((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، غمرات جمع غمرة، وسميت بذلك لأنها تغمر الإنسان، أي: تغطيه، بحيث لا يرى ما أمامه، والمحتضر عينه زائغة وعندما تكلمه لا يسمع، وقبل هذا كان معباً جداً، وكان يقول: لا أقدر أن أتنفس، ثم يزداد ألماً وضعفاً إلى أن يصل إلى درجة عدم القدرة على تحريك لسانه، فبالتأكيد أن الألم تضاعف جداً وزاد، والقوة ضعفت جداً لدرجة أنه لا يقدر أن يتكلم، وبدأ ينحبس نفسه، وتوجد أشياء تغطيه عن الواقع، تقول له: ماذا تعمل؟ لا يرد ولا يعرف، ربما بعد هذا لا يستطيع أن يتكلم، وبعد حين لا يسمع أصلاً، والبعض منهم يتكلم بكلام وينادي آخرين، هذه تحصل كثير جداً، فهو ينظر إلى حياة نحن لا ننظرها، ولا يعرف ماذا يريد، لكنه متعب جداً.
ساعة الاحتضار -فعلاً- تغمر الإنسان وتجعله لا يحس بمن حوله، ولا يحسون بما يلاقيه، هم يرونه يتألم ويغيب عن الوعي مدة، وبعد ذلك يتوقف القلب والنفس {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:٩٣ - ٩٤].
فغمرات الموت يخبر الله عز وجل عنها نبيه فيقول:((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، أي: إذا رأيت أمراً عظيماً وهولاً مفزعاً، ((وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ))، فدليل أن الملائكة تحضر هذا الميت، وتأمر أرواح الظالمين بالخروج ((بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ))، أي: بالضرب وبالسوء؛ لأن هذه الروح إذا رأت الملائكة فزعت وخافت وأبت الخروج، فتخرج بالقوة، وتنزع نزعاً (كما ينزع السفود من الصوف المبلول)، الخطاطيف الحديد حين تتعلق بالصوف المبلول أو الشوك لما يكون لاصقاً في الصوف المبلول يصعب انتزاعه، ولا أن يكون نزعه إلا بالشدة، كما قال عز وجل:{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}[النازعات:١]، أي: الملائكة النازعة بشدة، (غرقاً) يعني: بالغت في الشدة في النزع، استغرق الشيء يعني: المبالغة فيه، {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}[النازعات:١]، يعني: التي تنزع أرواح الكفار بشدة والعياذ بالله، فهناك نزع للروح من الإنسان حتى تفارقه، وهي لحظات شديدة جداً، لدرجة أن نفس الإنسان تبقى بصعوبة بالغة، والأطباء عندما ينصبوا مراكز التنفس في المخ فإن النفس الاعتيادي يكون في كل حوالي أربع أو خمس ثواني مرة، وبعد ذلك يحدث في كل خمسة عشر ثانية.
قال عز وجل:((وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ))، أي: اليوم يبدأ عذاب الهوان ومعنى: عذاب الهوان، أي: العذاب المهين، والمراد باليوم: يوم الاحتضار، من ساعة خروج الروح وقوله:((الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)).
كل كافر ومبتدع، ومفت بالباطل، وكل من يقول على الله غير الحق له نصيب من هذه الآية، وكل من قال عن الله عز وجل ما لا يجوز كاليهود لما قالوا عن الله: إنه فقير، وكذا من قالوا: اتخذ الله ولداً كالنصارى، ومن قالوا عن الله سبحانه وتعالى: إنه ثالث ثلاثة، ومن أشركوا بالله وقالوا: اتخذ الله شركاء وأنداداً، ومن قالوا: إن لله عز وجل أعواناً في هذا الكون كل هؤلاء يقولون على الله غير الحق والعياذ بالله، وكلهم لهم نصيب من هذه الآية:((فاليوم تجزون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ))، ومن قال عن الحرام: إنه حلال، وعن الحلال: إنه حرام، وأنكر ما جاء به الكتاب والسنة فله نصيب فيها؛ لأنه قال على الله غير الحق.
سيأتي الإنسان فرداً، وساعة الاحتضار هذه من أشد اللحظات التي تؤكد أن الإنسان يكون فرداً لا أحد معه أبداً، ولا طبيب يساعده، ولا حبيب يقف بجواره، يضعون له الأجهزة وهو فاقد الوعي يعيش في غيبوبة.