من أعظم شبهات أهل الباطل أن الحق يأتي مخالفاً لما عليه الأجداد والآباء، ومخالفاً للتقاليد والعادات الاجتماعية التي نشئوا عليها، وهذا من أكبر أسباب قبول الناس للباطل، كما قال عز وجل:{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}[هود:١٠٩].
وقال سبحانه وتعالى عن ملكة سبأ:{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}[النمل:٤٣].
وكان سبب هلاك أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره على الكفر هذه الشبهة، إذ قال له أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله مع علمه بأنها الحق، لكن التقليد الأعمى من أعظم أسباب هلاك الأمم.
وهذه تهمة لا ينفيها أهل الإسلام حين يتهمون بها ولا يقولون: نحن لا نريد أن نبدل الأديان الباطلة التي أنتم عليها، بل يقولون: نحن نريد أن نبدل أديان الباطل، ونريد أن نصرف الناس عما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والشرك، ولذلك لم تجد أن موسى صلى الله عليه وسلم رد هذه التهمة التي ليست بتهمة أصلاً، وإنما هي إثبات نزاهته وطهارة دعوته ونقائها بحمد الله تبارك وتعالى، وأما التهم الأخرى فهي التي ردها موسى كما رد تهمة السحر والكذب، وكذا تهمة التكبر، ((وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ)) فهم يظنون أن الناس كلهم مثلهم، والحقيقة أنهم هم الذين يريدون الكبرياء في الأرض، ومع ذلك يتهمون موسى بذلك، فلو كان هذا أمراً منكراً -وهو كذلك- فلماذا تقبلونه على أنفسكم؟ ولماذا تريدون أنتم الكبرياء في الأرض؟! فأنتم تتهمون موسى بأنه يريد الرئاسة، وبأنه يحب الكبر في الأرض، وهذه تهمة يتهم بها الأنبياء والدعاة إلى الله عز وجل والعلماء، فيقول عنهم أهل الكبر: أنتم تريدون الكبر، وأنتم تريدون الرئاسة على الناس، وتحبون الشهرة، وهذا في الحقيقة من دائهم وجهلهم، وهم يعلمون أن هذا أمر قبيح ومع ذلك يستعملونه، ويصرون على الملك والرئاسة، ولا يقبلون أن ينازعهم أحد ذرة في كبريائهم وملكهم ورئاستهم، مع أنهم يعلمون أنه منكر.
سبحان الله! كيف يقول هؤلاء: إن موسى عليه السلام يريد الرئاسة والملك، وموسى عليه السلام ما طلب منهم أن يتركوا ملكهم ورئاستهم وإنما دعاهم إلى الإيمان وأن يتركوا بني إسرائيل؟! فكيف يتهم بذلك؟! فهذه تهمة إذا اتهم بها أهل الإيمان لم يحزنهم ذلك، لكن لهم أن يردوها ويقولون: إننا لا نريد علواً في الأرض ولا فساداً، ولا نريد أن نكون الكبراء والملوك والرؤساء وإنما نريد أن يعبد الناس ربهم، وأن نعبد الله عز وجل وندعو إليه، فمن خلى بيننا وبين ذلك فهذا سبيلنا الذي نسلكه ولا نريد غير ذلك، ولا نريد إلا أن يعلو الإسلام، فمن أعلى كلمة الإسلام فنحن تبع له، فلا نشترط أن تكون لنا الكبرياء أو الرئاسة، ولا نريدها أصلاً، وإنما يفر منها أهل الإيمان ويرونها ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة الإمارة، ومن سأل الإمارة وطلبها لم يجب إليها ولم يعن عليها وكانت وبالاً عليه، فهم لا يطلبون ذلك، ويبرءون أنفسهم من ذلك، بل ويحذرون على أنفسهم من ذلك.