للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوة توكل موسى بالله وثقته بنصره]

قال سبحانه وتعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:٧٨ - ٨٠]، وكان هذا الأمر لموسى كما ذكرنا في هذا الملأ العظيم وهذا الجمع الكبير استهانة بباطلهم وثقة بالله عز وجل: ((أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ))؛ لأنه لا يعبأ بهم، ولا يخشى ما في أيديهم من الباطل المزخرف.

قال سبحانه: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:٤٤] ولم ينسوا أن ينسبوا أمرهم إلى فرعون وتوجيهاته وأمره وعزته التي سوف يغلبون بها، وكما قال الله عز وجل حين ألقوا: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:١١٦]، فوصفه الله بأنه سحر عظيم، وموسى عليه السلام من ضمن من وقع في عينيه ذلك السحر، قال سبحانه وتعالى في ذكر ما وقع لموسى عليه السلام: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦]، فخيل إلى موسى أنها تسعى بالفعل، فكان تأثير السحر هائلاً على أعين الناس بمن فيهم موسى عليه السلام، حتى وقع في نفس موسى ما يقع في نفس البشر، وأوجس في نفسه خيفة موسى لحظة لا تتجاوز ثواني معدودة أو أقل من ذلك، لكنها سرعان ما تزول بالتوكل على الله وتثبيته سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:٦٧ - ٦٨]، وهذه الخواطر كالبرق تقع وتذهب بسرعة في قلوب الأنبياء، وربما طالت في قلوب بعض الأولياء مدة هذه الهواجس، وربما طالت في قلوب المقصرين مدة أطول من الوساوس، وإن كان الكل يدفع ذلك باللجوء إلى الله، وباستحضار آيات الله، فمن معه آيات الله فهو الأعلى، ويذهب الله عز وجل ما في قلبه.

لقد خشي موسى أن يلتبس الأمر على الناس، وأن يقبلوا ذلك الباطل كما قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:٦٧ - ٦٩]، هنا تغير ما في نفس موسى، فقد بين الله في سورة (طه) هذه الخلجات النفسية، وبين في سورة يونس قبل أن يلقي ما قاله بعد أن ثبته الله، فقال عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:٨١ - ٨٢].

وبين في سورة الأعراف ما تلا ذلك من إلقاء موسى، من ذهول السحرة وفرعون وملئه عندما وجدوا عصا موسى قد تحولت إلى الثعبان العظيم، قال عز وجل: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:١١٧ - ١٢٢].