للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حصول الضراعة إلى الله تعالى والاستغاثة به]

كذلك قدر الله الآلام لأنه يحب أن يسمع تضرعنا ودعاءنا واستغاثتنا، وهكذا أخبر عز وجل حين قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:٤٢ - ٤٣]، فهذا التضرع يحبه الله سبحانه وتعالى، أن تقوم القلوب قبل الأقدام ذليلة لله منكسرة له، فقيرة إليه، تعلم أنَّه لا ناصر لها في الأرض سواه، وإن اجتمعت الأمم من أولها إلى آخرها على أهل الإسلام فالله نعم المولى ونعم النصير، فمن أيقن بذلك قام لله عز وجل داعياً متضرعاً مستغيثاً راجياً يتشبه بقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بدر وهو يرى قريشاً معها إبليس قد جاءت بحدها وحديدها وأشرافها وكبرائها يحادون الله ورسوله، فما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وإنما ظل يصلي ويبكي ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.

يقول علي رضي الله تعالى عنه: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي ذلك أنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩]، فالله يحب أن نستغيث به، فعزته وجلاله لن يغيثنا سواه سبحانه وتعالى، ولا ملجأ لنا إلا إليه، وتضرعنا بين يديه من أعظم أسباب كشف الكرب والهم، فهو سبحانه وتعالى الذي وعدنا الإجابة، بل وأخبر سبحانه وتعالى أنه يجيب دعاء عباده فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:٦٢]، وإذا تأملت هذا الترتيب العجيب وجدته وسيلة المسلمين بإذن الله، فالعبد إذا شعر بالاضطرار والخوف الشديد شعر بالاضطرار والتضرع إلى الله، فيكشف الله السوء، وبعد كشف السوء وزواله يستخلفنا الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ((وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ)).

فهو سبحانه وتعالى يحب أن يسمع التضرع والدعاء، وينزل السكينة على ذلك، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:٤]، فهو الذي قدر المواجهة مع الكفر لكي يلجأ إليه المؤمنون فينزل السكينة في قلوبهم ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، وهو تعالى يحب ذلك، ومن أجل ذلك قدر المحن، وقدر الآلام، وله الحمد سبحانه وتعالى على ذلك كله.

وعندما يزداد الكرب والخوف والألم، وعندما يكون هناك رد فعل طبيعي منا إن كنا صادقين، فنتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى في ليلة الأحزاب، ليلة الريح الشاتية الباردة المطيرة، الليلة المظلمة التي لم يبق معه عليه الصلاة والسلام فيها حول الخندق إلا قلة من أصحابه الكرام، فقد رحل كثيرون وقالوا: إن بيوتنا عورة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سكينة عجيبة، يصلي من الليل ثم يقول لأصحابه: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فمن شدة الجوع، ومن شدة الجهد والتعب والإرهاق، وشدة الخوف والظلمة والريح الباردة لم يتحرك أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي أولئك الأفذاذ رضي الله تعالى عنهم، فلا يلتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتباً لأحد، بل يلجأ إلى الله، ويصلي كثيراً، فصلى من الليل يتضرع إلى الله عز وجل في هذه الزلزلة التي قال عز وجل عنها: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:١١].

وعندما نرى أحزاب الدنيا قد اجتمعت علينا من يهود ونصارى وملاحدة ومشركين ومنافقين من جميع أرجاء الأرض فإننا نتذكر يوم اجتمعت أحزاب العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقاييس في ذلك الوقت لا يمكن أن تكون بميزان الناس في صالح أهل الإسلام أبداً، فعشرة آلاف في مواجهة قلة بقوا وثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فماذا يفعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ ولم يستجب أحد من صحابته لترغيبه حين انتدب من يأتيه بخبر القوم قبل الأمر؛ لأنهم لم يكونوا يخالفون طلبه، فصلى مزيداً من الصلاة، وكرر الترغيب مرة ثانية فقال: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فلم يقم منهم أحد، فيتركهم عليه الصلاة والسلام ويصلي من الليل، ثم يقول في الثالثة: (من يأتيني بخبر القوم ويكون رفيقي في الجنة؟) فلم يقم أحد، فيقول: (قم يا حذيفة!)، والصحابة رضي الله عنهم أجمعين لا يمكن أن يخالفوا أمره عليه الصلاة والسلام، وإنما لم يتحركوا عندما كان الأمر مستحباً؛ لأنه كان ترغيباً دون عزيمة في الطلب، ولكن لما قال: (قم يا حذيفة) ما كان له من القيام بد، فقام حذيفة رضي الله عنه وذهب إلى القوم ينظر كيف تفعل بهم الريح، وكيف تفعل بهم جنود الله، فقد كانت الريح تكفئ قدورهم، وتقلع خيامهم، وكان أبو سفيان يقول: النجاة النجاة إني مرتحل.

فترحل قريش، وترحل غطفان بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام، فالأمور العظمى تتقرر في الصلاة يا عباد الله! فبدعوة صادقة أثناء العبادة وأثناء التضرع تنكشف البلايا والمحن.

ويعود حذيفة رضي الله تعالى عنه، وقد ذهب وكأنه في حمام وعاد وكأنه في حمام إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فوجده يصلي عليه الصلاة والسلام.

وهكذا كان عليه الصلاة والسلام على الدوام متضرعاً إلى الله عز وجل مسبحاً ذاكراً، فالتضرع إلى الله من الحكم البالغة التي من أجلها قدر الله عز وجل وجود البلايا والمحن.