للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خمس خصال تضاد ما أودع في القلب من خير]

هذه خمس خصال لنقص الإيمان أو ما يضاده: أولاً: غلبة الطبع؛ وليس كل ما طبع عليه الإنسان طباع سوية، فالله عز وجل قد خلق الخلق من الأرض بأنواعها: منها السهل، ومنها الوعر، فهل أنت على طبعك، أم أنك هذبت بتهذيب الشرع؟ وهل تزكت نفسك، أم أنك ما زلت على غلبة الطباع، وما يغلب على طبعك؟ مثل هذا لابد أن ننظر فيه، غلبة الطبع، ميل النفوس، شهوات النفوس، فإن النفس لا تخلو من الصفات المذمومة قال تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:٤٠]، والهوى هو: الشهوات والمحرمات، والشهوات موجودة في كل إنسان، فهو مبتلى بها لكي يهذبها، فلو أن رجلاً في طبعه الجرأة، والثاني في طبعه الجبن، هل من في طبعه الجرأة ضبط الجرأة بحيث تصبح متوازنة بعيدة عن التهور، والذي طبعه الجبن، هل تغلب عليه بحيث لا يفر مما وجب عليه، ولو أن رجلاً فيه قلة حياء، وآخر عنده حياء، فلابد أن يغير كل واحد طبعه؛ لأن الناس متفاوتون في الطباع، فمن عنده جرأة غير محمودة لابد أنه يهذبها ويوجهها إلى أن تكون في الحق فقط، ولا ينبغي أن يكون عنده قلة الحياء، والذي عنده حياء غير شرعي يوجهه حتى يصبح حياءاً شرعياً، وتجد إنساناً فيه كرم والثاني فيه بخل، فكل واحد عليه أن يهذب طبعه، فالكريم يجب عليه أن لا ينفق أمواله في سرف، والبخيل يجب أن يعود نفسه على الإخراج في مواضع الإخراج، ولا يمنع الواجب، ويجاهدها لتنفق في المستحب، وهكذا.

فيجب على الإنسان أن يهذب طباعه، فهذه قضية الطبع وقضية الشهوة وميل النفس قضية أخرى، فشهوة الطعام والشراب والجنس وحب المال والوجاهة في الناس موجودة عند كل الناس، لكن يمكن للإنسان أن يوجهها ويتحكم فيها حتى لا تسيطر عليه هذه الرغبات كما هو حال أكثر العالم، فأكثر البشر يتركون أنفسهم على ما هي عليه من الطباع، فلا يفكر في علاج الطباع السيئة ولا يحاول تهذيبها؛ لأن الأخلاق تكتسب، فهي قابلة للتغيير وإلا لما وجد معنى لمدح كمال الخلق ولا لذم سوء الخلق، فلا يمدح صاحب الخلق إلا لأنه استطاع أن يهذب خلقه، وليس المراد أن يقتلعها بالكلية، ولكن يوجهها إلى شيء معين.

ثانياً: ميل النفوس إلى الشهوات، والشهوات ليس المطلوب قلعها بالكلية، حتى لا يبقى عند الإنسان رغبة في الأكل والشرب والنساء والمال، وإنما المطلوب هو تهذيبها، بحيث يكون هو الذي يتحكم في الشهوات وليست الشهوات هي التي تتحكم فيه، وأكثر العالم تتحكم فيهم شهواتهم، ولذلك تجد الشهوات في الشعوب المنحطة والطوائف السافلة هي التي تحركهم، كشهوة المال وشهوة الجنس، ومن أجل طعام أو شراب تباع كل القيم والعياذ بالله، وهذا أمر يحصل حتى ممن ينتسب إلى الدين، فحكمة الابتلاء هي التمحيص من هذه الأمور، من غلبات الطبائع وميل النفوس.

ثالثاً: حكم العادة، وهي من أقوى الأشياء التي لا يستطيع الإنسان تغييرها إلا من رحم الله، فأنت إذا نظرت إلى حياة الناس تجد أنها في نكد وشقاء لا يعلمه إلا الله، وتجد أن الناس في تعب شديد، ومع ذلك تجدهم حريصين على هذه الحياة؛ لأنهم تعودوا عليها، فما هو الذي يجعل الإنسان يشرب السجائر؟ هل هي شهوات النفس؟ لا، فشهوة النفس أن يستنشق هواءً نظيفاً، إذاً هي العادة، فهو تعود أن يشرب السجائر والعياذ بالله، وآخر تعود النظر إلى التلفاز مع أن الدراسات العلمية الغربية تقول: إن التلفاز مضر، ويتعب الأجيال المتتابعة كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، لكن الناس تعودوا على النظر إليه، وأيضاً الكرة ترى الناس في حزن شديد إذا أصيب فريقهم بخسارة، فالناس لم يعد ينقصها الحزن فالشقاء كبير، إذاً: فما هو الذي جعلهم يحزنون؟ إنها العادة، لقد تعودوا على هذا، فهل يستطيع الإنسان أن يهذب عادته وأن يتحكم فيها؟ وهل يستطيع أن يترك عادته ويفارقها؟ إن أكثر الناس لا يستطيعون ذلك، ولذلك كان ثواب الهجرة عظيم، وكان الخروج للحج عبادة عظيمة الأثر في نفس المؤمن؛ لأنه يغير كل عاداته، فهو يأكل ويشرب وينام على خلاف عادته، وفي الحج أشياء كثيرة المقصود منها أن يغير الإنسان عادته، ومع ذلك تجد أن نفسه لا تستطيع ذلك، مثل المبيت بالمزدلفة والمبيت بمنى، فيجد فيها مشقة بالغة، مع أن الإنسان تكفيه حاجات يسيرة جداً بإذن الله تبارك وتعالى، وأيضاً الزواج صعب في حياتنا بسبب العادات، مع أن الأصل هو تيسير أمر الزواج، لكن الناس تعودوا على مغالاة المهور وعلى اشتراط أشياء لم تكن معروفة من قبل، ولذلك تجد بعض الناس ينتحرون بسبب العادات، فأحدهم انتحر لأنه لم يستطع أن يحضر لأولاده دفاتر وكتب وحقائب جديدة للمدرسة! وهذه حقائق موجودة، وآخر انتحر في العيد لأنه لم يستطع أن يشتري لنفسه ولعياله الملابس الجديدة! مع أن المطلوب من الإنسان هو أن يستر عورته، لكنه يريد أكثر من ذلك خشية أن يتكلم عنه الناس، ولأنه أيضاً قد تعود على شيء معين.

رابعاً: تزيين الشيطان، وأكثر الناس في غفلة عن هذا الأمر، فالخواطر التي تأتي على الإنسان ينبغي للإنسان أن يفكر من أين أتت هذه الخوطر؟ هل أتت من الشيطان أم من النفس الأمارة بالسوء أم من الملك وهذا من فضل الله عز وجل؟ تجد أن أكثرنا لا يفكر في ذلك بسبب مشاغل الحياة، ففترة المحنة تجعل الإنسان ينتبه لتغيير عاداته، ويبتعد عن شهواته، وينتبه لقضية الشيطان، ويفيق من الغفلة، فهو حين يرى الناس يموتون من حوله، فينتهي كل شيء كانوا يبحثون عنه، وينتهي كل شيء كانوا جمعوه، فيبتعد عن الغفلة، ففترات المحن تجد أنه يتغير فيها أشياء كثيرة في لحظات، ويوشك الإنسان أنه يقدم على ما هو أشد من هذه البلايا والمحن، فالناس في الحروب يجدون أهوالاً عظيمة توقض النفوس، فهذا مات أخوه، وهذا يهدم بيته، وهذا فقد أسرته، وهذا فقد ذراعه، فيرون أشياء كثيرة تذكرهم بالأهوال القادمة التي هم مقدمون عليها لا محالة، فتذكرهم الأهوال بسكرات الموت، وبوحشة القبر، وبأهوال البعث، وبموقف الحشر، وبالجنة والنار، فاستيلاء الغفلة يبعد الإنسان عن كل ذلك، ففترات المحن تذكر بهذه الأمور، وبقرب نهاية الحياة، فكل هذه الأمور تجعل القلب يحيا.

قال ابن القيم: فإن القلوب يخالطها بغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة، ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى، فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منها، فاقتضت حكمة العزيز أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك.

فكانت نعمته سبحانه وتعالى عليهم بهذه الكسرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم على عدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا.

فهذا كلام مفيد عظيم الأهمية، فنعمة الهزيمة تساوي نعمة النصر والظفر، ولو تأملت أحوال الأمة في زماننا لقلت: لو تمكنوا ونصروا لوقع من الفساد أضعاف ما يقع، ولو فتح عليهم من الأرزاق والغنى والسعة والقوة والسلطان والظفر بالأعداء لظهرت نفوس لم تتهذب، ولم تتزك التزكية المطلوبة، ولخرجت أضغان الله أعلم بها، ولوقع من الفتن والفساد ما نحمد الله عز وجل على عدم حصول النصر والتمكين على تلك الهيئة، فله الحمد سبحانه وتعالى على البلية وله الحمد على النعمة؛ لأن هناك إصلاحات واجبة لم تتم، فإذا تمت في الطائفة المنصورة، لأن الأمم كلها لا تتغير، ولا الأرض كلها كذلك، فالصحابة الذين غير الله بهم وجه العالم معدودون، يقول تعالى عن نوح: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠] ودائماً عبر العصور {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣]، لكن الطائفة هذه إذا تغيرت التغير المطلوب، فهي المؤهلة لأن تقود العالم بعد ذلك.

يقول ابن القيم: ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم، فهم لم يكونوا منافقين، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:١٥٥]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.