[أهمية العلم بمعنى (لا إله إلا الله)]
لما كانت كلمة التوحيد: لا إله إلا الله عنوان التوحيد وعمدته كان معرفة معناها ومقتضياتها ولوازمها والعمل بذلك من أهم ما يجب على المكلف، ومن أهم ما يجب على الداعي أن يدعو إليه.
وكلمة: (لا إله إلا الله) أمر الله بالعلم بها فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:١٩].
قال البخاري: بدأ بالعلم قبل العمل.
وبوب على هذه الآية: باب العلم قبل العمل، فبوب بهذه الآية، وترجم لهذه الآية، فإنه قبل ما يقول له: (استغفر)، قال: (فاعلم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).
وقال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:٨٦]، والاستثناء هنا منقطع، يعني: لكن من شهد بالحق وهم يعلمون ينجون عند الله، أو يشفعون.
أما جنس الشفاعة فلله عز وجل، كما قال عز وجل: ((وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ)).
فلا يملك الشفاعة إلا الله، لكن الذين يشفعون هم الذين استثناهم بقوله: ((مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: وهم يعلمون أن لا إله إلا الله، والبعض قال: هم ممن يدعى، مثل الأنبياء والصالحين، والآية عامة، ومن ضمنهم عيسى والملائكة، فهؤلاء يشفعون عند الله عز وجل، لكن الراجح أن الاستثناء منقطع، يعني: أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.
ومن أمثلة الاستثناء المنقطع قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:٥٦].
فإن الموتة الأولى كانت في الدنيا، وليست في الجنة.
فقوله: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: شهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم معناها، ويعلم حقيقتها، وهو موحد، فهؤلاء يشفعون، وإن كانوا لا يملكون الشفاعة، بل يستأذنون الله عز وجل.
فالعلم بمعنى هذه الكلمة العظيمة شرط في نفع صاحبها في الآخرة، ودخوله الجنة؛ ولم نقل: إنها شرط في نفع صاحبها في الدنيا لأن العلم هذا عمل في القلب، فهذا التصديق القلبي عمل قلبي، ونحن لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، فالظاهر أن العربي إذا قال: لا إله إلا الله فهو يعلم معناها على الأقل، فهذا العلم إذاً مرده في حكمه عند الله عز وجل في الآخرة، فأحياناً ينتفع به صاحبه فيدخل به الجنة لأول وهلة، وذلك إذا كان يعلم معناها ويعمل بمقتضاها كذلك.
ولكن العلم يتفاوت ومراتبه تختلف، فإن أصل العلم بمعنى كلمة التوحيد من إثبات الألوهية لله وحده ونفيها عن دونه ركن من أركان الإيمان الباطن الذي لا يثبت بدونه، أما ظاهراً فيجب إثبات الإسلام بنطقها، وحمل أمر من ينطقها على السلامة حتى يتبين منه ما يناقضها.
إذاً: الأصل في أي واحد ينطق الشهادة أنه مسلم، وأنه عارف معناها، ولسنا مأمورين أن نبحث عن معرفته لمعناها، وإنما يوضح له معناها ضمن دعوته إليها.
مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:٦٤].
والرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم أمور الدين إجمالاً.
وأنا أذكر هذا الكلام لغرض مهم جداً وهو أن أناساً كثيرين لما نقلوا ووجدوا في كتب علماء كثر: أن العلم بمعناها والعمل بمقتضاها شرط في حصول التوحيد، دفعهم ذلك إلى أنهم يقولون: كل الناس يقولون: لا إله إلا اله، ولكن لا يعلمون معنى لا إله إلا الله، فأدى ذلك إلى انتشار جبهة التكفير أو التوقف، أو غيرها من البدع التي من هذا النوع.
وذلك بسبب الخلط في قضية العلم بمعنى لا إله إلا الله بين الإجمال وبين التفصيل، وبين الظاهر وبين الباطل.
فلو تبين لنا أنه نطقها ظاهراً من غير أن يدري نهائياً أي معنى لها، كمثل شخص رصت له حروف بلغته اللاتينية مثل: لا إله إلا الله، وقيل له: قل هكذا، فنطق حروف لا يعرف معناها نهائياً، فلا يثبت إسلامه، ولو قالها بالإنجليزية ولا يعرف أن يقولها بالعربية وهو يعرف معناها يثبت إسلامه.
وأما إذا امتنع منها لأنها شعار، ولو قال: أسلمت لله، وهو يعرف أن المطلوب منه قول: لا إله إلا الله، فلا يكفي، وذلك مثل الأسير الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! إني مسلم، فقال له: لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت وأنجحت).
ومثل نصارى نجران لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أسلمنا، فقال: (يمنعكم من ذلك عبادتكم للصليب، ويمنعكم من ذلك ادعاؤكم لله عز وجل ولداً وقولكم: المسيح ابن الله)، فكونه يقول: أنا أمسلم، وهو عارف أن المطلوب أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكفي.
أما الذي لا يعرف أن يقولها، فقال: صبئنا، صبئنا، فإنها تقبل منه.
فالذي لا يعرف أن يقولها، وذلك بأن كانت صعبة عليه، فهو يريد أن يقول: أنا أريد أن أدخل في الدين هذا، لكن لا يعرف أن يقول إلا صبئنا.
فصبئنا هذه تقبل منه، ويصبح مسلماً بذلك، ويعامل كمسلم في أحكام الدنيا، وأما أحكام الآخرة فحسابه عند ربه، فلو كان قلبه صادقاً، فيكون قد دخل في الإسلام فعلاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لهؤلاء الناس الذي قالوا صبئنا بالدية؛ لأنهم كانوا مسلمين وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد).