[الحث على المسارعة إلى الجنة، وصفتها]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين إما أن تقضي، وإما أن تربي، -تربي أي: تزيد، والربا أصلاً من الزيادة، يربو: يزيد-، قال: فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر، -في قدر الدين وصار مضاعفاً-، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً، وأمر الله تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى -في الأولى الدنيا، والأخرى: الآخرة-، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، أي: كما أعدت النار للكافرين، وقد قيل: إن معنى قوله: ((عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) تنبيهاً على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:٥٤] أي: فما ظنك بالظهائر، إذا كانت البطانة من الحرير فالظهارة دائماً تكون أفضل من البطانة.
وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله -كالكرة- والله عز وجل أعلم بصفة ذلك، وهذا ليس عندنا ما يدل عليه عبارة صريحة.
يقول: وقد دل على ذلك كما ثبت في الصحيح: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن).
هذا الحديث رواه البخاري، ولكن ليس صريحاً في أن الجنة كالقبة، فالله أعلى وأعلم.
فالكيفية مجهولة بالنسبة لنا، ولكن الفردوس أعلى الجنة وأوسطها، وسقفه عرش الرحمن.
قال: وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:٢١] الآية.
قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد: (أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار) حديث ضعيف.
ورواه ابن جرير عن يعلى بن مرة قال: (لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً قد فند)، فند أي: بلغ الهرم، وضعف جداً، (فقال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فتناول الصحيفة رجل عن يساره، قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ قالوا: معاوية فإذا كتاب صاحبي)، ومعاوية هو الذي يقرأ الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بقارئ، وقوله: (فإذا كتاب صاحبي) أي: فإذا كتاب هرقل فيه الآتي: (إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار).
وقال الأعمش وسفيان الثوري، وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة.
يعني أن هذه الحجة موجودة في التوراة بهذه الطريقة والله أعلم، رواه ابن جرير من ثلاثة طرق.
ثم روى عن يزيد بن الأصم: أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون: جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أين يكون الليل إذا جاء النهار؟ وأين يكون النهار إذا جاء الليل؟ أي: حيث يعلم الله سبحانه وتعالى، وملك الله أوسع من السماوات والأرض، فالله عز وجل يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.
فمضمون الحجة أنه يكون حيث شاء الله، وملك الله عز وجل أعظم من السماوات والأرض كما ذكرنا.
قال: وقد روي هذا مرفوعاً، رواه البزار عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قوله تعالى: ((جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)) [آل عمران:١٣٣] فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال: وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل).
يقول: هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون اثنان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله وهذا أظهر، كما تقدم في حديث أبي هريرة عند البزار.
والثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر كما هو معلوم الآن أن الليل يكون في جانب، والنهار في جانب آخر.
فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله عز وجل: ((كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.