إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:٧٠ - ٧١]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وقد جعل الله عز وجل البلاء وعداً للمؤمنين لا وعيداً لهم، قال تعالى:((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ)) أي: وهو مكتوب علينا، كما قال الله سبحانه وتعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:٥١]، وما يصيب المؤمن من بلاء فهو نعمة، وعطية من الله عز وجل يكتبه له، وذلك للمؤمن وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وكيف لا يكون وعداً له ونعمة، وهو يزداد به قرباً من الله وإيماناً وإسلاماً، ويزداد له حباً وتعظيماً.
وكيف لا يكون البلاء بالحرمان عطاء وهو حرمان من شيء زائل وعرض تافه صغير يوشك أن يحرم منه كل أحد، ولا يوجد عطاء أوسع من فضله وجوده وكرمه، ومن ذلك أخذه قلب عبده إليه وتوجيه ناصيته إليه، قال تعالى:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}[هود:٥٦]، فأي شرف أعظم من أن تتوجه ناصية المؤمن قلبه إلى الله عز وجل، وأن يفرد الله سبحانه وتعالى بالتوكل والإنابة والخشوع والخضوع له وحده لا شريك له، وأنه وحده سبحانه وتعالى الذي يتولى أمر المؤمنين قال تعالى على لسان المؤمنين:((هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))، فعند ذلك تكون البلية عطية، وتكون المحنة منحة، ويكون الابتلاء نعمة ومنة من الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن بإيمانه وإسلامه؛ لأنه إذا اقترب من الله عز وجل وازداد إيماناً وتسليماً كان ذلك أنفع له في دنياه وأنفع له في أخراه.
ونتأمل عاقبة ما قال المؤمنون نجد فعلاً أن هذا وعد الله لهم، فعندما انتهت غزوة الأحزاب قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الآن نغزوهم ولا يغزونا)، وتحول المسلمون من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم الذي ظلوا عليه بفضل الله عز وجل، يهاجمون به الشرك ومواقعه ومواضعه حتى نصرهم الله عز وجل في المشارق والمغارب، وأظهر دينه وكلمته على الدين كله وأتم أمره، ولا يزال الإسلام يتقدم والمسلمون يتقدمون حتى في أشد فترات الضعف المادي؛ فهاهم يهزمون أمام التتار وتفتح بغداد للتتار ويقتل كل من فيها؛ ثم بعد حين يدخل التتار في الإسلام ويلتزمون بأحكامه كما أقروا بكلمة التوحيد، ويصير التتار إلى يومنا هذا شعباً مسلماً من أشد الشعوب الإسلامية قوة في الجهاد في وجه الأعداء، فسبحان الله! الذي ينصر المسلمين إذا اقتربوا من الله عز وجل وأطاعوه، ويجعل لهم قوة وشوكة ويدبر لهم الأمور، وإن كان الأعداء يظنون أنهم يمكرون، وإنما ذلك من مكر الله عز وجل بهم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله كما قال عز وجل:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}[فاطر:١٠]، فقد بار مكر يهود، وبار مكر قريش، وبار مكر المنافقين الذين يتربصون بالإسلام، وبار مكر الحلف العجيب بين طوائف الشرك وكفرة أهل الكتاب والمنافقين للمكر بالإسلام وأهله، والمؤمنون يرون هذا وعداً من الله لهم: كما قال الله تعالى ذلك عنهم لما رأوا الأحزاب: ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)).