إن الله عز وجل لا يطلع عباده على ما في القلوب، فليس من سنته سبحانه وتعالى أن تنكشف القلوب للناس؛ ولهذا لا يجوز أن يدعي أناس بلا بينات أن في قلب فلان رياء أو كذباً أو غشاً أو شكاً، فهذا أمر ليس من سنة الله، ومن أطلعه الله من الأنبياء كما أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض المنافقين، فإنه لم يجعله يعمل بذلك، بل يعمل بالأمر الظاهر، فأبى أن يقتل صلى الله عليه وسلم من علم أن في قلبه نفاقاً، وقال:(لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولم أؤمر أن أشق عن قلوبهم) قال ذلك لمن عمل بالقرائن من أصحابه، مثل قوله لـ أسامة حين قتل الرجل الذي أكثر في المسلمين قتلاً، فقال عندما علاه بالسيف: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فقال:(إنما قالها متعوذاً، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا؟!).
فمع أن الله أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما في قلوب كثير من المنافقين ومع ذلك لم يعاملهم بذلك؛ لأنها سنة الله الشرعية في هذا الأمر، وهي أنه لا يطلع أنبياءه على ما في قلوب الناس اطلاعاً تاماً يعرف به كل أحد بل قال سبحانه وتعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}[التوبة:١٠١]؛ وذلك أن الله استأثر بعلم الغيب سبحانه وتعالى، فإذا أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض المنافقين فهو لم يطلعه على جميعهم، كما أنه لم يجعل هذا الأمر تنبني عليه الأحكام، وإنما تبنى على الأمور الظاهرة، فلا يتهم إنسان بنفاق من غير بينة، أو عمل بخصال النفاق، ولا يجوز بالأولى أن يتهم بكفر أو فسق أو بدعة من غير بينة، ولو تصورنا أن الله أطلع بعض أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم على غيب القلوب، فتصور ما يمكن أن يدعيه من يأتي بعدهم، فيقتل أناساً وتنتهك حرماتهم بدعوى من يقلد هؤلاء، ويقول: أنا وقع في قلبي أن هذا رجل منافق فقتلته، أو أن هذا رجل منافق فسجنته، أو أبعدته، أو أن أنه كذاب فعاملته بمقتضى ذلك، فيحصل فساد عريض، فيتهم البريء، وتنتهك الحرمات بالدعاوى والظنون الكاذبة، ويدعي أن له في ذلك أسوة بالصحابة رضي الله عنهم حين عاملوا الناس بما وقع في قلوبهم.
ولذا كان من ضلالات بعض الصوفية: أن منهم من يزعم أنه يطلع على ما في قلوب أتباعه وتلامذته، أو قلوب الناس، فيعاملهم بمقتضى ذلك الكشف كما يزعمون، وهذا أمر باطل لا شك فيه، فنحن أمرنا أن نعامل الناس بالظاهر، قال تعالى:((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)) فهذا الاستثناء الاستدراك حتى يبين أن الرسول قد يطلع على بعض ما في قلوب بعض الناس، لكن إنما يطلعه الله عز وجل، يخصه بمعرفة وعلم دون سائر الخلق، وهذا لا يجعل الغيب شهادة، وتبقى مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله عز وجل بها لا يعلمها إلا هو.
وما أطلع الله نبيه عليه ليس من الغيب المطلق الذي لا يطلع عليه إلا الله، ثم إنه لا يبنى عليه حكم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يعمل بالظاهر، ولا يكون اطلاعاً كاملاً بل جزئياً، فيعلم شيئاً ولا يعلم غيره، ولا يعلم إلا ما أوحاه الله عز وجل إليه، إما في أمر قد وقع أو في أمر لم يقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد يخبر عن غيبيات في المستقبل، ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يخبر عن تفاصيل وقوعها، ولا يخبر بوقوعها في وقت محدد، فالأمر لا يزال غيباً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عن الفتن والملاحم، والدجال، ونزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وأنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولم يخبرنا عليه الصلاة والسلام بوقت ذلك، وإنما أخبرنا أن ذلك سيقع.
وأما ما أخبر به باليوم، وبتحديد المكان فقد علقه بالمشيئة كما قال في ليلة غزوة بدر:(هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله)، فجعله معلقاً بالمشيئة، فحين حددها تحديداً كاشفاً علقها بالمشيئة؛ لأنه قد يغير الله عز وجل ذلك وقد يمضيه، وحين جزم دون تعليق على المشيئة بقي الأمر غيباً؛ لأنه لم يخبر بكل التفاصيل زماناً أو مكاناً أو يخبر بالزمان دون المكان أو المكان دون الزمان، ونحو ذلك مما يظل الأمر معه غيباً، فهذا مما ينبغي فهمه في قوله عز وجل:((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ))، وقوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن:٢٦].
كذلك لا يخرج الأمر عن كونه غيباً انكشف لبعض الناس، بل لا يزال غيباً حتى في حق الرسول؛ لأن الله عز وجل قال:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}[الأنعام:٥٩] وهذا عام لم يستثن، وقال سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:٣٤].