[صور من صدق نصرة الصحابة لدينهم]
قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))، أي: الصادقون مع الله عز وجل في القول والعمل، قال عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣].
يقول أنس رضي الله عنه: غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر فقال: غبت عن أول مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين، لئن أشهدني الله مشهداً غيره ليرين الله ما أصنع -أبى أن يقول غيرها، أبى أن يقول سوف أقاتل أشد القتال- فعندما كانت وقعة أحد وانكشف المسلمون وفر منهم من فر، قال رضي الله تعالى عنه: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمون لما وقع منهم من الفرار والمعصية التي تاب الله عز وجل عليهم منها بعدها، إلا أنه يعتذر عنهم حباً لهم، وشفقة عليهم، ويبرأ من المشركين، ثم انطلق رضي الله عنه فوجد سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز لموته عرش الرحمن، سيد الأنصار رضي الله عنه، فيقول سعد حاكياً للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أنساً قال: يا سعد! واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد.
رضي الله عنه، رزقه الله أن شم بالفعل رائحة الجنة، -وواهاً: كلمة استحسان للرائحة، أي: ما أعظم هذه الرائحة- وانطلق ليقترب منها، قال سعد: فو الله يا رسول! ما استطعت ما صنع، أي: لم يستطع سعد أن يصنع ما صنع أنس رضي الله عنه، مع أن سعداً والذي عندما مات بكى عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الحرير قال: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه).
سعد بن معاذ يقول: والله ما استطعت ما صنع، ثم وجد به -أي: بأنس- بضعاً وسبعين جرحاً، ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح رضي الله عنه، فما عرفته أخته إلا ببنانه، يعني: جرح رضي الله عنه قبل الجرح القاتل بضعاً وسبعين جرحاً، وإنما أوقفه الجرح الأخير، وظل رغم بضعاً وسبعين جرحاً مستمراً في القتال رضي الله تعالى عنه.
وكذا جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وجد به ما بين بضعٍ وثلاثين جرحاً، ما فيها شيء في ظهره أبداً رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه رضي الله تعالى عنه، حتى لا تسقط راية المسلمين، ثم أبدله الله جناحين في الجنة يطير بهما.
صدق مع الله عز وجل فما تردد ولا تأخر أبداً رضي الله تعالى عنهم، فقد كان عندهم صدق مع الله عز وجل.
فـ أنس بن النضر ما عرفته أخته إلا ببنانه، قال أنس: فكنا نرى أن الله أنزل فيه وفي أصحابه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣].
وانظر الزبير رضي الله تعالى عنه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وحده إلى بني قريظة في غزوة الخندق، لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف خبر بني قريظة من الغدر ونقض العهد وخطرهم، فانتدبه رضي الله عنه، فيخرج الزبير في سرية وحده، ويذهب ويرجع رضي الله تعالى عنه.
قالوا له في غزوة اليرموك: اشدد على العدو فنشد معك، فقال: لا تستطيعون، قالوا: اشدد فنشد معك، فشد رضي الله تعالى عنه، فخرق جيش الروم إلى أن خرج من الناحية الأخرى، ولم يجد أحداً يرجع معه، لم يستمر المسلمون معه رضي الله تعالى عنه، فجيش الروم كان أكثر من مائة ألف في غزوة اليرموك، وخرق الجيش كله، ثم رجع فخرق الجيش كله مرة أخرى إلى أن وصل إلى المسلمين، حتى يقول عروة وكان صغيراً: كنت أدخل أصبعي في جراح الزبير رضي الله عنه ألعب فيها، منها ما كان يوم أحد، ومنها ما كان يوم اليرموك.
قال الله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))، أي: صدقوا مع الله عز وجل في القول والعمل، والإنسان كلما صدق في القول كلما يسر الله له الصدق في العلم، وكلما كان صادقاً فيما عاهد الله عز وجل عليه، كلما استمر وثبت على الحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).